ذكريات عمتي فاطمة

تمضي سنة أو أكثر، لا أراها إلّا في الأعياد، أو في عزيمة العائلة الرمضانية. يشجيني حديثها، فهي من تبقّى في فلسطين من أخوات جدي، عمتي فاطمة، فاطمة علي حسين. يتسللني الشجن والحنين، وأحيانًا أخرى الغضب…لا يهم ما أشعر به الآن ولكني أردت أن اقتطف بعض الحديث الذي دار بيننا اليوم وأنا أوصلها.

كنا نتحدث عن العائلة، فأكثرهم مهجّر، تتحسر على انقطاع التواصل بين العائلة، أسألها بنوعٍ من العتب، لماذا لم يبقوا هنا؟ هم من قطعونا.

تمضي فاطمة بسردها حنينًا وشجنًا…

أه والله، مين طلع من بلاده قل مقداره. ذاكر سنة الـ٦٧، كان إلنا بيت في بيت لحم، كنا فيه، أنا والصغار وإمي (ستي صفية) وستك حنيفة وكثار بقينا. وصل جيب الجيش عند مار إلياس، قدام شوي، بدأووا ينادوا بمكبرات الصوت، يا أهاااالي بيت لحم..اخرجوا إلى الأردن عن طريق أريحا، من لا يخرج سننسف البيت على رأسه، سنبدأ بقصف بيت لحم.

بلشوا يقصفوا بجنون، قالتلنا إمنا “تشل” واحدة تحضن ولادها، عشان لو أجت فيكم ومتّوا، تموتوا كلكم، ما تموتوا ويضلوا ولادكم يتحسروا عليكم. أخدتنا إمي على كنسية المهد، قالت أكيد ما بيقصفوا المهد…وصلنا، القزاز كان امّلي ساحة المهد. فاكر هذيك الايام مليح.

يسرح بنا الحديث إلى الاحتلال الأول سنة ١٩٤٨، انقسمت البلد قسمين، قسم بايد الصهاينة وقسم بايد الأردنيين.. تسرد فاطمة..

ضلينا لفترة الناس من جوه تطلع وإحنا ندخل، سيدي وخالي عبد المعطي ضلوا جوه بمعمل البلاط وأنا بقيت أحمللهم الأكل دايمًا. ليوم الأردنيين مسكوا العميل مصطفى. بعد بأسبوع وواسطات طلعوه. وبعدها بشوي حطوا الحدود ومنعوا الناس تتنقل بين قسمين البلد. بقيت أقعد غَرْبَه ع بلكونة دار أبوي، أشوف الأسلاك وأقول بكرا بيشيلوهن وبيطلع أبوي لعندنا.

ليوم مرت خالي حبلت، ومصطفى العميل اللي بقى بده يشارك أبوي بالمعمل بالخاوه، وز لليهود عن خالي، جمعوهم، سأل الضابط خالي، ليش بتطلع يا عبد المعطي، قلهم مش مزبوط الحكي، حكوله ولا مرتك كيف حملت، قلهم مني حملت. بقى خالي يدب ما يهمش. حمّلوهم، أبو أسامة وولاده وخالي وأبوي، ونزلوهم عند الولجة وبلشوا يطخوا بين رجليهم، بقيت شايفة الطخ من بيتنا. طلعوهم وسرقوا المعمل.

بقى عندنا أراضي تحت، بقى صاحب أبوي عنده أرض جنبنا. إجوا حطوا كرفناتهم على أرض أبوي، صاروا يحكوا الناس، هدول باعوا اشمعنى اجوا على أرضهم. بس بعدين حطّوا العدة بالكرفانات وصاروا يبنوا بالأرض اللي جنبنا، أرض صاحب أبوي، إجى ركاض عند أبوي يعتذرله، يقله فكرناكم بعتوا، الأراضي كلها ضاعت. صارت البلد فقيرة أرض.

وصلنا الدار، ولم أصل إلى مبتغاي، لا أعلم لماذا أصر على سماع تلك القصص مجددًا رغم أني أعلم ما تحدثه في نفسي من غضب. أكره غضبي، أكرهه لأنه يستقر. لأنه لم يجرفني إلى مبتغاي بعد، أكرهه لأني أعلم أنه سيبقى نارًا تحت رماد، لا يطأه أحد ولكنها أيضًا لا تحرق أحد.

وصلنا إلى الدار ولم أصل بعد إلى هدفي..لم تنتهي حكاية فاطمة، فهي مازالت تحمل ذاكرتها ثقلًا..وقد أصبح قريبًا أحد شخصيات حكاياتها..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s