طريق فلسطين

تثيرني تلك النزعة لخلق صور البطولة والتضحية عند الناس. يخطرني حينًا أن تلك النزعات ممارسات تخلق أملًا بثورة قريبة. ولكن عندما أتمعن أكثر، أكتشف أن تلك الصور الرومانسية للبطولة لا ترافقها أي رغبة بالتضحية. على الأقل ليس التضحية بالنفس أو الرغبات الشخصية، بل تشجع من هم في محيطنا للتضحية كي نشبع أحلامنا البطولية. ويبقى السؤال ما هي المسافة المقبولة بيننا وبين تلك التضحية؟ نبقيها في الأغلب مسافة تبعد نبضة أو نبضتين لا تقترب أكثر. وإن حدث أن اقتربت إلى أفئدتنا إحداها، فإننا ندفعها بعيدًا لكي نقبل تلك التضحية أو البطولة كما نتخيل.

والعبور من تخيل تضحية الآخرين إلى تخيل تضحية الذات هو الطموح. وعندما نعبر ذلك الحاجز، تصبح الصورة أوضح. ولكنها مرحلة جديدة، قد تطول قليلًا وقد تقصر. قد نتمكن من السير في مسيرة التضحية المتخيلة، وقد لا نمتلك خيارًا إلّا أن نذهب إلى تلك التضحية دون مسيرة، دون أمل. قد نذهب إليه للوصول إلى راحتنا الذاتية، راحتنا الأبدية. نحن نعلم أننا لا يمكننا التمسك بأمل المسيرة طويلة.

يرى الشهيد أبو عمر ميخائيل أن الثوري هو ليس من يتكلم عن الثورة بل من يصنع الثورة. ليس من الصعب الحديث عن الثورة والنضال والتضحية خاصة عندما تتواجد في محيط يجلّ تلك المعاني. ليس بالضرور أن تكون على استعداد لعيش تلك المعاني. ولكن أن تكون كأبو عمر، شخص يعيش أفكاره ويموت في سبيلها، يعني أن تقترض من الحياة لحظات سلام مع النفس. لحظات أمل لا يملك أحد أن ينتزعك إياها.

في عصر تغيب فيه التعبئة الثورية والتنظيمية، لا يملك أحدٌ إلا الاستعانة بأقصر طرق التضحية. هي قصيرة على من يهلل لها، طويلةٌ على من يخوضها. قد يتخذ البعض ذلك القرار في لحظة غضب، خاصة اليافعين، ولكن البعض يكون قد خاض عسارًا نفسيًا ليصل لتلك اللحظة. هي ليست بالضرورة اللحظة المثالية المتخيّلة. ولكن السياق والفرص تكون قد شاقته. فلا يجد بدًا من امتلاك موته إن لم يستطع امتلاك حياته. فلا تحين لنا جميعًا أن نقاتل معارك نصنع منها أملًا لأنفسنا، فنجبر على أن نخوض معركة واحدة لصنع أمل للآخرين في معاركهم.

لكننا نبقى نسعى لصناعة أملٍ لأنفسنا. أن نخوض معارك، لا معركة، ولا مناوشات، بل معارك. معارك بهدفٍ لنا فرصة الوصول إليه مع جموع العائدين في ذلك اليوم المتخيّل. لكننا نعيش في زمنٍ يقيدنا، يبقينا حبيسي بقعٍ جغرافية تمنعنا عن المساحة الثورية المطلقة. صحيح أنه في ظل التقييدات على التنظيم السياسي من المهم بناء مجموعات مختلفة لتبحث كيفية الصمود حتى لو كانت مجموعات تجوال أو بيئة أو حتى مجموعات تأمل البحر. ولكن يبقى ذلك بلا معنى في غياب مجموعات القتال. فلماذا نصمد؟ نحن نصمد لأجل أمل، ولا يصنع الأمل إلّا السواعد المقاتلة. فإن كثر الصامدون وقل المقاتلون، تصبح ممارسة الصمود ممارسة استسلامية. استسلام للواقع، التمسك بما نملك بلا أمل في استعادة ما خسرنا.

أننتظر أن تخلق الحالة قبل أن نعيش أفكارنا؟ إذا ارتأى جميعنا أن لا ضرورة للمخاطرة بحياتنا في غياب أي وجود لحالة ثورية منظمة ونسعى في طريقنا المهنية والتعليمية حتى تأتي فرصة تكون فيه المخاطرة أقل ضمن جماعة وحالة “فما عمره بيصير شي ولا عمره شي بيتغير”.

أقصى أمانينا أن نصل في يوم مع الجماعة إلى ما نشوق إليه، إلى تلك الصور المتخيلة عن يوم التحرير والعودة، إلى تلك اللحظة.. تلك اللحظة. ولكن في نهاية المطاف، أنبل من فينا هم من يدركون أنه ليس الوصول مع الجماعة ليوم التحرير أهم من إدراكك في تلك اللحظة، لحظة ترجلك عن الفرس ارتقاءً، أنّك جرّبت أن تشعل نيران ثورة التحرير وتدفع فيضان النضال نحو الهدف المنشود. أن تدرك أنك جربت أقصى ما يمكنك ولم تترجل عن فرسك بالساهل.

تلك الصور المتخيلة ورومانسية التضحية هي ملك لنا ولأفكارنا، يرحل أنبلنا محتفظًا بها سرًا عن من حوله. ولكننا ممارسةً، للوصول إلى ذلك الأمل المتخيّل، لا يمكن إلّا أن نعمل بجدية. التخطيط مهم والعمل السري تحت الأرض أساسي في نجاح أي عمر ثوري منظّم. ولا مكان للأخطاء، خاصة تلك التي تخلقها عواطفنا، فالخطأ الأول قد يكون الخطأ الأخير.

أبو عمر ميخائيل كان يكرر على مسامع من حوله من “مثقفين” أن المثقف الثوري لكي يستحق أن يكون مناضلًا يجب أن يمارس النضال فعليًا. هو لم يشأ أن يسمحل لنفسه من خلق مهرب من التضحية المطلقة، من الثورة المطلقة، من عيش أفكاره والموت في سبيلها. وكان يردد في دروس التوعية في مخيمات المقاتلين أن علينا دراسة علم الثورة حتى نستطيع القيام بواجبنا تجاه قضيتنا. فالتضحية والنضال هي ليست فقط تلك اللحظة النهائية، تلك الخاتمة، أو انسدال ستار المسرح.

الخوف شيء طبيعي والكل بيخاف. ولكننا نتغلب على خوفنا عندما لا نكتفي بصناعة صور البطولة لتضحيات الآخرين. ولكن عندما نعيش صورنا وأفكارنا ونموت من أجلها. عندما نتوقف عن إلصاق صور الشهداء على حوائطنا. ولكن…نتسلق جدران خوفنا لنقفز إلى قصصنا المتخيّلة. قد يفشل بعضنا في ايجاد طريق، ويكتفي بخوض معركةٍ وحيدة، أو مناوشاتٍ مترامية على أطراف المشاع، ولكن يجب أن نحاول، فقد يحالف قلبنا خوض طريق التحرير، وإن لم نصل.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s