كيف نستعد للتحرير؟

قد يخطر إلى الأذهان عند طرح سؤال التحرير صورٌ حالمة لأين سنكون في تلك اللحظة ومع من؟ ما هو أول شيء سنفعله؟ تلك الصديقة التي تواعدنا معها على عزيمة جريشة في القدس أو ذلك الصديق الذي سيقطع الحدود التي لن تكون ليتناول فنجان ميرامية معنا على قمة جبل عامل جنوب الحدود المزالة أم شمالها.

كل ذلك مهم. الحلم مهم، هو الذي يدفعنا إلى الأمام حتى في أكثر الأوقات حلكة. هي بوصلتنا. فالحلم هو ذلك الهدف الذي لا تفاوض عليه. ولكن السؤال الأهم والذي يتجاهله بعضنا، هو عن دورنا في تلك المرحلة التي تسبق التحرير. كيف نساهم بالتحرير؟ أكثرنا يشجع عند خط التماس لا يترجّل إلى الملعب إلّا عنوةً أو عندما يشاهد تلك الجموع انهمرت، لنكون أول المنسحبين عندما تعود الجموع للاندحار نحو منصة المتفرّجين.

وإن كان الحلم سؤالنا الشخصي، ولربما هاجسنا النرجسي، فأدوارنا الفردية لا تُبنى خارج الإطار الجماعي. ولا يكفي أن ننتظر تحرك الجميع لنتحرك، فتحريك الجميع هي مهمة الجميع. إذا لا داعي للإجابة على سؤال “لا شيء يحدث، لن يضيع عليك شيء في فلسطين. ركز في عملك أو دراستك .لماذا أنت في عجلة؟” من يسأل ذلك السؤال، لا تشكل فلسطين هاجسها الأول في الحياة. لذلك لننكر على السائلين شرعية سؤالهم.

ما هو دورنا في التحرير؟ وكيف نجهز أنفسنا للقيام به؟

هذان سؤالان مرتبطان. وفي ظرفٍ مثالي، يجيب عنهما حركة تحرير نشطة، لها رؤية تحرير واضحة وخطة جاهزة. ورغم أن بضع حركات مقاومة ومقاومين منفردين يشدون من أزرنا، إلّا أننا اليوم نفتقد لحركة تحرير واضحة المعالم، أو نفتقد لرؤية تحرير بالمطلق في حقيقة الأمر. إذًا ماذا نفعل؟ أننتظر المخلص الذي سيخبرنا ماذا نفعل؟ طبعًا لا. فكل شخص يحب فلسطين ويرى في التحرير هدفه المطلق، هو مشروع مخلّص سيخلق تلك الحركة ويرسم تلك الخطة. ولكن لنكون جاهزين إمّا للقيام بذلك الدور أو بأي دور تحتاجه منّا حرب التحرير القادمة لا محالة، فعلينا أن نبني شخصية المقاتل. وعلينا اليقين بأن في كل وقت هنالك من يطبخ على نار هادئة.

وسأكمل حديث بصيغة حيادية، وقد أقفز لاستخدام المؤنث أحيانًا، ولكنها تنطبق على الرجل والأنثى. وإن ذكرت بعض التخصيصات، فأنا أعلم أنها تأتي من موقعي كرجل، لا أستطيع ادعاء معرفتي المطلقة بتفاصيل كينونة المرأة.

لنجعل من أنفسنا إنسان مقاتل، يجب أن نبني أنفسنا عقليًا وجسديًا ونفسيًا وممارسةً. ولكل شخص فينا سياقاتها لا يدركها كاملة إلّا أنفسنا. لذلك لا يمكن التخصيص المطلق بالحديث، فأهل مكة أدرى بشعابها. ونعم قد يستغل الكثير تلك السياقات ليجدوا لأنفسهم مخارج من التضحية. ولكن لا رقابة على ذلك إلّا أنفسنا. وعلينا أن نتذكر أننا لا نتوقع أن يشارك الجميع بنفس الجهد ونفس الاستعداد للتضحية وفي نفس الوقت. ولكن ليس دورنا جميعًا أن نكون مثقفين واعلاميين للمعركة. تلك من أقل الأدوار شواغر وأكثرها رغبة. وتنبع تلك الرغب عن ايجاد غطاء يقينا التضحية. ولا يجعلنا من مؤثري ومثقفي المنصّات.

نحن سندخل معركة التحرير على مراحل. في أول مرحلة سيطلق المعركة قلة قليلة جدًا، المغامرون، ولكنها أعدت نفسها جيدًا على جميع المستويات. وستلحقها مئات إلى بضعة آلاف من المتحمسين سريعي التشبث بالأمل، المتفائلون، وعلى استعداد للتضحية عندما ترى أي عمل في ذلك السبيل. وبعد هنيهة، وعندما يتضح أن ما يحصل هو ليس عمل مقاومة تقليدي وإنما معركة غير المعارك التي خضناها سابقًا، ويقودها مقاتلون على الاستعداد للذهاب إلى أبعد فسيلحق الركب الآلاف في كل المناطق الذين لا يرغبون في أن يضيع عليهم فرصة المشاركة ويرون الموت في الجماعة رحمة، المتشائمون. وعند أول مؤشرات سقوط الكيان الصهيوني، لن يبقى أحد جالسًا في بيته. حتى العميل الذي كان بالأمس يغدر بشعبه، سيتجاهل كل ما فعله وسيدعي البطولة وينزل للمشاركة مع اثبات وجود.

بكل الأحوال لو كنا نرغب بأن نكون في إحدى المجموعات الثلاثة الأولى، علينا أن نستعد لنعطي التحرير أقصى ما يمكننا.

الاستعداد الجسدي

لا يمكن لخامل أن يحرر فلسطين. وأستثني من حديثي هنا كل من يعاني من مرض أو إعاقة جسدية تقف في طريق استعداده الجسدي. ولكن أخص بالحديث هنا من امتلك امتياز الامكانية الجسدية الكامنة، ولكنه لم يعمل من أجلها. وتجاهل السعي نحو بناء قدرات جسدية ولياقة عالية هي أول خطوات الانسحاب من أي فكرة للقتال من أجل التحرير. حتما لن تتمكن من الصمود في تلك الجبال أيام وأسابيع إذا استدع الأمر. لن تستطيعي حتى المشاركة في معركة مسلحة، أو اشتباك شعبي، لأن التعب سينالك، ورفع البندقية أو حتى قذف الحجر غير ممكن.

لذلك من أرادت القتال من أجل فلسطين بشكل جدي، عليها التجهّز جسديًا قدر الامكان. وقد لا يتاح للكثير امتياز نادي رياضي، ولكن التجهيز البدني لا يحتاج لنادي رياضي. وهو يفضل أن يمارس في جماعة. كل ممارسة جماعية تبني شخصية مقاتل يفكر بالآخر، وذلك المقاتل الذي سيمضي إلى أبعد حد. وقد تكون الممارسة الجماعية هي من خلال فرق الكشّافة أو التجوال أو غيره. والتفكّر بأساليب الحياة مهمة. ماذا نستهلك من الطعام. لذلك فالممارسة الاستهلاكية هي بحد ذاتها مناقضة لممارسة المقاتل. وطبيعة الأعمال الجسدية تساعد أيضًا في بناء القدرة البدنية. لذلك فإن الفلاح الفلسطيني تاريخيًا كان في طليعة أي عمل ثوري قتالي.

الاستعداد العقلي

والاستعداد العقلي ليس بأقل أهمية. رغم أن الكثيرين يعتقدون أنهم يقمون بذلك حتمًا، ولكن لا. لا يعني الاستعداد العقلي رصف الكتب لادعاء الثقافة. ولا يعني قراءة كتب لكتاب وتيارات فكرية معينة لادعاء الثورية. الاستعداد العقلي للمثقف يتضمن كل القراءات من علوم اجتماعية وإنسانية إلى علوم طبيعية والكترونية.

كل له قدراته ورغباته طبعًا. الأولى أن تتجه إلى تنمية قدرات العقلية في المجالات التي تبدع بها. العمل المقاتل يستفيد من كل العلوم، وسيسهل عليك إيجاد دور لك في دعم القتال حتى لو لم تقاتلي. ولكن أيضًا من يحمل السلاح يحتاج إلى ذلك العلم والمعرفة في كل المجال، فتلك القدرات العقلية هي الكفيلة بدعم قدرة المقاتل على اتخاذ القرارات في ساحة المعركة، وتخطي العقبات، وايجاد البدائل ووضع الخطط.

الاستعداد النفسي

ومن يريد أن يقاتل من أجل حرية فلسطين عليه أن يتفكّر بمعنى التضحية كثيرًا. يجب أن يصل إلى توازن نفسي من حيث الاستعداد للتضحية. والاستعداد بالتضحية هي ليست الرغبة بالموت ولكنها رغبة بالحياة حتى التحرير. أي أن الموت هو ثمن يرخص دفعه إن كان في مصلحة حرية فلسطين. وهنا فلسفة كثير عن متى يكون الموت في مصلحة فلسطين. وستعلمين أنك وصلت إلى التوازن النفسي عندما تتوقفين من أن تسألي نفسك ذلك السؤال وتؤمني بأنك ستتخذين القرار الصحيح بالتضحية لأنك متيقنة من استعدادك الكامل لها حيث لا تؤرقك تلك الأسئلة المترددة. فالتردد عدو الحرية!

الاستعداد ممارسةً

والمقاتل في أي ساحة، حتى قبل بدء القتال، ينعكس رغبته في القتال من أجل حرية فلسطين على ممارسته اليومية. هل هو إنسان منتج أم مستهلك؟ ما هو مجال عمله؟ مع من يعمل؟ هل أنت جاهز لحصار طويل إن فرض علينا أثناء المعركة؟ هل تنتج طعامك أو تعتمد على المنظومة في توفير طعامك وشرابك، كأساسية من أساسيات الحياة والصمود. الأسئلة كثيرة وليس لها أجوبة واضحة دائمة، وقد تختلف الأجوبة حسب السياقات والامتيازات، ولكن التفكر بكل تفصيل ممارستك في الحياة مهمة. وايجاد السبل مهم. فقد يجد بعضنا أنه يمكن له من تطوير تعاونية اشتراكية في نموذج يتعاون فيها مجموعة من الناس في سياق معين في انتاج مأكلهم ومشربهم وملبسهم وربما أكثر. أي أنها ليست فقط تعاونية زراعية، ولكنها أشمل. لن نعجز عن ايجاد الممارسة السليمة والأفضل لتؤهلنا مستقبلنا للصمود في المعركة إلى أبعد حد. وإن لم نكن نملك الأدوات اليوم فهو لأننا لم نفكر كفاية، فبالنا مشغول بمليون ألف شاغل في الحياة، ساعتين من مشاهدة أفلام يوتيوب قبل النوم، ساعتين من اللعب على الكمبيوتر. ساعتين من تصفح المنصات دون هدف، وينتهي نهارنا وتبقى فلسطين في الهامش.

أول خطوة لتحرير فلسطين هو جلب فلسطين إلى قلب حياتنا وتفاصيل حياتنا. وجلب تحرير فلسطين بالتحديد. لا يجب أن تبقى نشاطًا لا منهجيًا أو أحاديث سمر ونديم كأس.

وأخيرًا، أكثرنا التصاقًا بالأرض أكثرنا قدرة واستعداد للتضحية. قاد الفلاحون معظم ثورات فلسطين لأن المشروع الاستعماري بالأساس يستهدف الاستيلاء على الأرض، والتي تمثل رأس مال الفلاح الفلسطيني. أي أن الاستعمرار يرسلنا اليوم إلى المدن لقطع تواصلنا الفعلي بالأرض، وإن بقي التواصل المعنوي. والفرق هو بالاحساس بوقت الاستعمار. من يسكن المدينة، قد يرى أنه يستطيع الانتظار أكثر قبل أن يبدأ العمل لتحرير فلسطين. فهو لم يتغير عليه الكثير بين السنة والأخرى. أمّا أهل الريف ومن بقي التصاقهم بالأرض يعملون بها سواء كأفراد أم كجماعات، فهم من يدركون أن الانتظار ولو يوم ليس خيار. لذلك فرص الثورات الشاملة التي يقودها لريف هي أكبر. ولذلك يقوم المحتل وعملاءه بارسالنا إلى المدن للعمل في قطاع الخدمات.

نعم هنالك استثناءات، فالمخيم أيضًا يشعر بأهمية التحرير فهو بالأساس من يشعر كل يوم باحساس فقدان الأرض، وبعض المدن، والقدس بالذات، ينطبق عليها ما ينطبق على الريف الفلسطيني. فالممارسة الاستعمارية في القدس تختلف عن أي مدينة بشراستها واستهدافها للعنص البشري وكل مناحي حياته بتلك المباشرة. قد نرى بعض النماذج المصغر بالخليل وغزة طبعًا، ولكن الممارسة الاستعمارية في القدس تختلف بوتيرتها وشراستها واستهدافها الأشمال ووصماتها المرئية السريعة. لا استراحة في القدس، رغم محاول الاستعمرار خلق فقاقيع وجيوب في القدس من خلال التخطيط والسياسات التي تحاول دفع أهل القدس نحو كنتونات الضفة عملًا وحياةً لحبسهم في تلك الفقاقيع التي خلقتها هنالك.

أول خطوة لتحرير فلسطين هو جلب فلسطين إلى قلب حياتنا وتفاصيل حياتنا. وجلب تحرير فلسطين بالتحديد. لا يجب أن تبقى نشاطًا لا منهجيًا أو أحاديث سمر ونديم كأس. وابدأي بالتفكير بالتحرير بأنه حدثٌ سيحصل غدًا.

3 comments

  1. بس بحب أبدي اعجابي بالكتابة ورصانة الأفكار باتجاه الهدف وصدق التعبير …
    بالصدفة كنت عم بقرأ لمصطفى حجازي (مع اختلافي معه بكتير مطارح ) بس كان عم بحكي عسيكولوجية الثورة وكان بحكي انه لا بد من قلة تقود العمل الثوري او زي ما سماه بالتمرد …والجماهير تتماهى بهذه القلة متمثلة بشئ من بطولتها فتكتسب شيئًا من الثقة بالنفس والإمكانات الذاتية وبتبرز الحاجة إلى تجاوز استسلامها واحساسها بالعجز وهاي القلة هي اللي تعمم أسلوب المجابهة عند كل الناس … وهدول سميتهم (بالمغامرين) … حجازي بكمل تحليل وبحكي تجاهل الواقع سحريًا من الممكن يخلي محاولات التحرر في إطار ردود الفعل … وبالتالي تفقد الثورة قدرتها التغيرية…. بدلًا من الجهد الصامت والتعامل الصبور مع الواقع على طول مرحلة تحررية طويلة الأمد …
    بقدم اعتذاراتي انه أفسدت انسياب الأفكار الصادقة بتحليلات مبينة انها اقتباسات نخبوية … بس يمكن نقاشها مهم !

    إعجاب

    • شكرًا على الرد. وبالنسبة لآخر تعليق، مثل ما قلتي هو تحليل تخبوي، مش تحليل أكثر منه تبرير لذات المثقف…الواق والصامت والصبور وطويلة الأمد….هيك بيضلهم يدعوا إنهم (المثقفين) بيعملوا اشي لفلسطين ..بس شو واقعي وصامت وصبور وطويل الأمد لأنهم شو ..أذكى مننا كلياتنا..إلنا تحت الاحتلال الصهيوني 75 سنة والاستعمار إله 150 سنة…أظن استنفذنا طولة الأمد والصبر…بالمجمل..فلسفة عرفاتية فتحاوية سلطوية هاي جابتنا بحوض نعنع

      إعجاب

      • اه صحيح … استنفذنا كل الوقت
        هو التحليل مكانش بيحكي عواقعنا بالزبط … يمكن كان غلط اسقاطه …
        بس كان تحليل منيح بمووضوع القلة المغامرة…
        وتقبل مرورنا 😜

        Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s