“اللي أكله مش من فاسه، شوره مش من راسه”: نموذج الاشتراكية التعاونية الفلسطينية

الإرث الاقتصادي والاجتماعي الفلسطيني هو اشتراكي تعاوني بطبعه، وخاصة في الريف. وقد يكون ذلك هو الحال في معظم أرياف العالم. وتلك الأرياف تم تفريغها من أهلها وبالتالي من قيمها الاشتراكية. ولن أعود إلى بداية الرأسمالية، ولكن إلى سنة ١٩٦٠ حيث كان يشكل سكان الأرياف نحو ٦٦٪ من سكان العالم. تلك كانت الفترة الانتقالية بين شكلين من أشكال الهيمنة الغربية والاستعمار في العالم. وأيضًا بين شكلين من أشكال الرأسمالية من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية مالية.

بعد أقل من ٥٠ عام وبالتحديد سنة ٢٠٠٧، تجاوزعدد سكان الحضر سكان الأرياف لأول مرة. ومازالت الهجرة من الريف إلى المدينة في تزايد مطرد. وحتى في الدول الصغيرة جغرافيًا كفلسطين، فإن الكثير من سكان الريف باتوا ينتمون اقتصاديًا، وبالتالي ثقافيًا، إلى المدينة فاستحضروا منها ثقافتها .الاستهلاكية والفردانية

لست في صدد اقناع أحد بأن الثقافة الرأسمالية سيئة والمفاهيم الاشتراكية هي الأقرب إلى العدالة. ورغم أن البعض قد يقول لك أن ما يستهلكه في المجتمع الرأسمالي هو ضروري، الهاتف ضروري، التلفاز ضروري، السيارة ضرورية..الخ الخ..ولكن يبقى ذلك في طور المجاز. الشيء الأكيد أنه ضروري لك ولكل إنسان من أول الزمان إلى آخره، إن انتهى، وفي كل يوم، هم استهلاك شيئين لا ثالث لهما، الطعام والماء.

الماء، المصدر المتجدد في الطبيعة دومًا، الذي لم يعجز البشر عن ايجاده واستحصاله، حتى لو بمعاناة في بعض المناطق، كان ملك عام ومشاع للبشر قبل أن تقرر الصناعة الرأسمالية السيطرة على مصادر مائك وتعبئتها في قناني بلاستيكية وبيعها لك. تكلفة تنقية المياه لا تسوغ حتى المبالغ التي تجبرك الحكومات على دفعها لقاء مصدر موجود بالطبيعة، وسيطرة جهة عدوة على ذلك المصدر يعني إمكانية قطعها عنك متى شاؤوا. ولذلك مثلًا في القدس، منعنا من حفر الآبار وأجبرنا على طمر الآبار التي حفرها أجدادنا في منازلنا. كل ذلك بحجة الصحة العامة. يمكن للمجتمعات استخراج المياه من باطن الأرض وتنقيتها وتوزيعها للجميع بسعر التكلفة، فالماء مصدر طبيعي من الأرض لا تصنعه الشركات بل تسرقه من الأرض لتبيعه مجددًا لك.

أمّا الطعام الذي كان ينتجه البشر بأنفسهم، باتت تسيطر عليه شركات ضخمة. وتمت تلك السيطرة من خلال السيطرة على المصادر الطبيعية كالماء أحيانًا أو من خلال سياسات افقار لاجبار المجتمعات على الانخراط في أنماط اقتصادية تعزز من تبعية البشر لمنظومات رأسمالية مهيمنة.

السيطرة على مصادر الغذاء والماء هو ما يجعلك تحت رحمة المنظومة. وقد لا يهمك الأمر ولكن سيهمك إذا كانت أهدافك بالحياة تتجاوز الشرب والأكل والانبساط. فإذا كنت من الذين يسعون نحو عمل تحرري، أو أي عمل ثوري قد يغضب المنظومة، فلن تقوي على فعل شيء، لا لشيء بل لأنك تركضين في دولاب ولأن المنظومة هي التي تطعمك وتسقيك. فأي مجتمع يقرر أن يقاوم سيعاقب بحصاره وتجويعه. هي ليست مسألة أموال كما يوهموك. هي مسألة طعام وماء. وهي أول الطريق للعتق.

وإن كنت فلسطينيًّا، لن يسعفك تنظير المثقفين عن الماركسية واللينينة والشيوعية وغيرها من أفكار الرجل الأبيض. فرغم أنها أفكار لها قيمة في أوطانها، فهي لم تفصل لنا. ونحن نملك في سياقنا التاريخي أفكارًا اشتراكية وجمعية تسعفنا ولا نجد في أنفسنا عقدة النقص لنرمي أنفسنا بأحضان الرجل الأبيض اشتراكيًا كان أم رأسماليًا. نقرأهم جميعًا ولكننا نقرأ تاريخنا أيضًا، ونملك أن نخلق أفكارًا تناسبنا إن لم نجدها.

سيكون من المهم في مرحلة ما من ايجاد نموذج اشتراكي يعتقنا من تبعية الغذاء والماء. وليس من الضرورة أن يعمل الجميع في الزراعة، فيمكن لمجموعة أن تمتلك بشكل جمعي وسائل انتاج الغذاء وينوب عنهم نفر قليل بالعمل في الانتاج الزراعي ويستمر الآخرون بأعمال أخرى، يفضل أن تكون فيها انتاج من نوع ما، سواء انتاج فكر أو علم أو غيره. أو يمكن للجميع المشاركة بجزء من العمل والقيام بأعمال أخرى يرغب بها في نفس الوقت. لا أعلم ما قد يكون أفضل نموذج، والنماذج لا يتم اسقاطها، هي تجربة عملية ولا تنجح إلّا بالتجربة. ولكن يلزمها لب صلب من فكر اشتراكي تعاوني يحركها كي لا تهوى تلك التجارب وتذوب في أطر أخرى. ورغم انتشار التعاونيات الزراعية في فلسطين، ولكن تبقى المعيقات كثيرة.

لن أطيل هنا وسأترك هذا النقاش عند هذا الحد لأنه لا يمكنني أن أخوضه وحيدًا. ولكن أحببت أن أعرض عليكم نموذج من النماذج الاشتراكية الابداعية في التاريخ الفلسطيني وهو نموذج الاشتراكية التعاونية في سلمة. حيث ملكية الأرض ووسائل الانتاج والمنفعة جماعية. ولكن النموذج ذلك يضمن أن لا يقل العطاء أو احساس الفرد بملكيته للأرض والمنفعة. ولكنه يحس بها ويمارسها ضمن اطار المجموعة.

قرية سلمة هي إحدى القرى المهجّرة قضاء يافا. لم تسعى العائلات في سلمة إلى ملكيات فردية للأرض بل حبذوا ابقاء الأراضي أراضي مشاع. توزعت العائلات إلى أربع مجموعات وقسموا أراضي البلدة إلى أربع جهات متوازية بحيث تزرع كل مجموعة جهة واحدة لمدة سنة، من ثم يتم المداورة فتنتقل كل مجموعة إلى جهة أخرى في السنة التالية. خلق ذلك النموذج نوع من الملكية المشتركة لكل أراضي القرية، فجميع العائلات ستزرع بمرحلة ما جهة من جهات البلد.

ويعني ذلك أيضًا أنه لم يوجد منافسة مؤذية كالتي خلقتها الرأسمالية. فكل مجموعة معنية بنجاح زراعة المجموعات الأخرى لأن ذلك سيؤثر على الأرض التي سيأتي دورهم لزراعتها في السنين القادمة. وأيضًا خلق نوع من العدل والمساواة حيث لم تنفرد مجموعة بأراضي خصبة دون سواها.

ولم تقتصر تلك المشاركة على الأراضي فقط بل أيضًا أدوات الحصاد والزراعة (وسائل الانتاج)، حيث لا ينتهي موسم الحصاد بالنسبة لمجموعة من العائلات عند الانتهاء من حصاد جهتهم، فإن انتهوا يهبون بأدواتهم الزراعية ودوابهم نحو المجموعات التي تأخرت في الحصاد. وكذك الأمر عند حراثة الأرض ونثر البذور. وسميت هذه الممارسة بـ”العونة” وهي منتشرة بمعظم مناطق فلسطين.

ولكن الهيمنة التركية أوقفت جزء من الممارسة الاشتراكية التعاونية في الجزء الثاني من القرن التاسع عشر حيث فرضت تسجيل الأراضي بأسماء العائلات لتمنع المداورة.

أهالي سلمة مهجّرون اليوم في أصقاع مختلفة. ولم تستسلم قرية سلمة للصهاينة، بل حارب مقاتلوها إلى آخر طلقة، وحتى قطع العرب الذخيرة عنهم. فكانت آخر قرى يافا يحتلها الصهاينة. وانتقل مقاتلوا سلمة لقرى اللد والرملة حيث توفرت بعض الذخيرة وقاتلوا مع أهاليها قبل أن يهجّروا من جديد، فتجد أهالي سلمة اليوم في مخيم الأمعري و مخيم النويعمة وفي نابلس وعمّان وغزة كمناطق التهجير الرئيسية، قبل أن تمد حدود هجرتهم ما وراء ذلك.

وإلى سلمة لنا عودةٌ قريبة..بسواعدنا

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s