الهبّة الطلابية النسائية في فلسطين: كيف أشعلت الطالبات هبّتي تشرين ١٩٦٨ وشباط ١٩٦٩

كان لهبة شباط ١٩٦٩ في الأراضي المحتلة دور كبير في صعود العمل الجماهيري والعمل الفدائي النسوي الفلسطيني. ورغم أن تلك الحركة النسائية الطلابية لم تأخذ حقها في سردية صعود العمل المقاوم في فلسطين، إلا أن من يتتبع تطور الأحداث في فلسطين ما بعد هزيمة ١٩٦٧ لا يمكن أن يغفل عن ذلك الحراك الذي أخذ منحى تصاعدي منذ ١٩٦٨. ستذهل عندما تتبع صعود العمل النسائي الطلابي في الأراضي المحتلة، ليس لشيء غير أن ذلك الحراك كان يواجه قمع دموي من قبل ميليشيا الاحتلال ورعوية قمعية من قبل الأطر الاجتماعية التقليدية سواء تلك المنخرطة في العمل المقاومة أو الانهزامية المتخاذلة.

تلك المظاهرة كانت من تنظيم اللجنة الوطنية في مخيم الشاطئ والتي كانت تحت هيمنة ذكورية

ورغم مشاركة المرأة في الكثير من أوجه العمل النضالي المسلح أو الجماهيري قبل سنة ١٩٦٨، إلّا أن السمة السائدة لدورها كان في العمل الجماهيري المساند حيث كانت في معظم الأحيان تقاد من قبل أطر ذكورية. وعندم نسمع عن عمل بقيادة نسوية فكانت تكون تلك القيادة هي من سيدات المجتمع المخملي، وفي بعض الأحيان كانت تقوم للتغطية على بوادر عمل نسوي قاعدي.

ويتداخل العمل النسوي بالعمل الفدائي المقاوم بالضرورة، فالمستعمر لا يقوم باضطهاد النساء بشكل خاص ليحكم قبضته على المناحي الاجتماعي في المجتمع المستعمر، بل يدفع بالأطر الرجعية في المجتمع (والمتعاون مع المستعمر في معظم الأحيان) على قمع أي فرصة لنهضة نسوية. وحتى ضمن الأطر الفدائية، فإن المستعمر يستخدم التعذيب الجنسي في الأسر لتأجيج القيم الذكورية القمعية (حتى داخل الفدائي) لقمع أي نهوض نسوي في الأطر الثورية الفدائية. وتلك إحدى التناقضات الداخلية التي كان يعايشها الفدائي الفلسطيني.

وهنا تكمن أهمية وعظمة هبّة ١٩٦٩، حيث أنها رغم كل ذلك القمع، لم تنهض فقط بالعمل النسوي المقاوم بل نهضت بالعمل المقاوم والفدائي الفلسطيني ككل، رغم استمرار تهميشها عن مواقع صنع القرار في العمل الفدائي العسكري. وكانت بوادر النهضة النسوية الفلسطينية الجديدة في منتصف آذار من العام ١٩٦٨ عندما أسرت ميليشيا العدو خلية فدائية في نابلس مكونة من ٨ طالبات ثانوي قمن باستجلاب السلاح والتدرب على استخدمه بغية القيام بعمليات مسلحة ضد ميليشيا العدو الصهيوني. ورغم أن بعض تلك الفتيات هن من عائلات برجوازية واقطاعية، إلّا أن ذلك الحدث لم يكن هو من أشعل الشرارة بالضرورة، ولكنها أولًا كان مؤشر لما يحدث على الصعيد النسائي في فلسطين، وثانيًا كان محفز للنساء لأخذ خطوات مماثلة.

١٩٦٨\٣\١٩

ولم تتعامل ميليشيا العدو بالقمع المعهود مع تلك الخلية لسببين، أولًا لأنهن يأتين من عائلات برجوازية والتي تنتج أفراد إما متعاونين مع العدو أو مهادنين له، وثانيًا لأن العدو خاب تقديره بما يمكن للنساء الفلسطينيات من فعله على الأرض فلم يرى في الأمر تهديدًا له. ولذلك، ارتمى العدو إلى التعامل مع هذه الخلية النسائية من خلال الأطر التقليدية الذكورية وبوسائل رعوية ذكورية. ولكن لم يتوقف الأمر هناك، فارتأت في تلك السنة الكثير من النساء الانخراط في العمل الفدائي المسلح، وكانت تلك قرارات فردية لم تتبلور ضمن حراك نسائي واضح بعد.

وتطورت تلك الحركات الجماهيرية الطلابية النسائية لتعم باقي أنحاء فلسطين. وقد هبت أيضًا الطالبات (والطلاب) في المدن والقرى الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٨، لسيطرة الحزب الشيوعي على سردية التحركات التي حدثت هنالك ولم أتوصل لمصادر بديلة. ومن المعروف أن الحزب الشيوعي هو من الأحزاب الفلسطينية التي تماهت مع الاستعمار الصهيوني لفلسطيني وشاركت في أطر كيانه، ولأن صحيفته “صحيفة الاتحاد” كانت المنشور العربي الوحيد الذي كان مصرح له من قبل العدو في الأراضي المحتلة سنة ١٩٤٨، فاستخدم في هذه التدوينة قصاصته، بالحذر الممكن.

وعودةً إلى الحراك الطلابي النسائي الآخذ بالتنامي، عمت المظاهرات بعد ذلك أنحاء فلسطين خاصة أن ذكر احتلال العام ١٩٦٧ كانت على الأبواب. ففي نابلس والبيرة خرجت في ذكرى الاحتلال مظاهرات نسائية ضخمة لم تطور لاشتباكات عنيفة باستثناء مدينة القدس. وبدأ نمو حراك الطالبات يقلق العدو الصهيوني خاصة في نابلس وغزة والقدس. ففي ٢٩ حزيران، أجبرت ميليشيات العدو مدرسة المأمونية للبنات إغلاق أبوابها دون السماح للطالبات بتقديم امتحانات نهائية العام. وأجبرت المدرسة على الاعلان عن بدء عطلة نهاية العام. وفي ٧ آب، بدأ جليًا للعدو ولباقي الأطر الفلسطينية أن النساء بدأنا بأخذ دور أكبر في العمل الفدائي والمقاوم، حيث أعلن العدو عن اعتقال خلية مكونة من ٩ فدائيين في القدس من ضمنهم ٤ طالبات في المرحلة الثانوية. ومجددًا حاولت الأطر التقليدية (بما فيها المؤسسات النسوية البرجوازية التقليدية) على تدارك الأمر، فأخذوا بمحاولات للتحرك (بإذن الاحتلال) لإظهار أن للنساء عنوان يلجأون إليه (وهي الأطر التقليدية).

ولكن اضراب القدس العام في ٢٢ آب بعد ليلة القنابل الفدائية، أعطى زخمًا أكبر للأطر الطلابية والنسائية، فعمت المظاهرات المسندة لأسيرات القدس نابلس وغيرها من المدن خاصة مع تواتر الأنباء عن تعذيب الأسيرات عبلة شفيق طه (كانت حامل) ولطيفة ابراهيم الحواري وسارة هاشم جوده واللاتي أسرنا على خلفية تهريب أسلحة من الضفة الشرقية لنهر الأردن إلى الأراضي المحتلة، ولكن الاحتلال فشل في انتزاع اعترافات ليلجأ للاعتقال الاداري. ومجددًا لم يكن القمع ما أثار أهبة الطالبات ولكن صمود النساء وصلابتهن في المواجهة.

وتصاعد حراك الطالبات في الأرض المحتلة وخاصة في نابلس حيث تصاعد الحشد للنضال الجماهيري في مختلف المناسبات. وفي ١٨ أيلول، وبعد حملة محمومة من نسف المنازل في نابلس، خرجت مظاهرة للطالبات تتحدى ميليشيا العدو. فتجمعت الطالبات في ساحة مدرسة العائشية (ثانوية بنات). وسرنا في مظاهرة الساعة التاسعة صباحًا رافعين شعارات تحث على الأعمال الفدائية. فاستنفرت سلطات الاحتلال “الوجاهات” في نابلس لكبح جماح الطالبات اللاتي بتنا يشكلن تهديدًا لمنظومة القمع والسيطرة الصهيونية، ليس فقط لأنهن رفعن سقف الشعارات في العمل الجماهيري ولكن لأنه في النفس الآن بدأت الكثير من الطالبات الانضمام لأطر العمل الفدائي المسلح. ففي ١٢ تشرين أول ومع تصاعد أعمال مقاومة بشكل غير مسبوق في الأراضي المحتلة، ودعوات الأطر الطلابية للمظاهرات المسندة للعمل الفدائي، هددت سلطات الاحتلال “وجهاء المدن” وأطرها التقليدية إذا سمحت بخروج أي مظاهرات طلابية بتنفيذ عقوبات جماعية في المدن المحتلة.

ولكن طالبات نابلس لم يكترثن بتهديد العدو (ولا الوجهاء) فخرجن بمظاهرة ضخمة في ١٣ تشرين أول. اشتبكن خلالها مع ميليشيا العدو الذي قام بقمعهن بقوة. وبدأت بعد ذلك سلسلة من الاضرابات الطلابية في نابلس وقلقيلية وجنين وغزة والخليل ورام الله والبيرة. وفي ١٧ تشرين أول قمعت ميليشيا العدو مظاهرة طالبات رام الله والبيرة ومظاهرة لطلاب المدرسة الصلاحية في نابلس، بالإضافة لقمع مظاهرة طلابية شاملة في جنين في ٢٠ تشرين أول. وفي ٢٣ تشرين أول خرجت مظاهرة طالبات من مدرسة رام الله الثانوية وعندما وصلت لمدرسة البيرة الثانوية تم قمعها وبدأت الاشتباكات والمطاردة داخل أروقة مدرسة البيرة الثانوية للبنات وقمعت مظاهرة أخرى للطالبات حاولت الخروج من مدرسة الطيبة المركزية للبنات في رام الله وقامت ميليشيا العدو بمطاردة وقمع الطالبات لساعات داخل أروقة المدرسة. ولم يجدِ اعتقال الطلاب والتهديد والوعيد شيئًا. ولكن هدأت وتيرة المظاهرات الطلابية بعد شهرين من المواجهات المحتدمة. قبل أن تعود للاشتعال مجددًا في كانون.

في ٢٠ تشرين ثاني ١٩٦٨، استشهدت في منزلها شادية أبو غزالة وهي تعد قنبلة مجهزة لعملية ضد ميليشيا العدو، فاستنفرت ميليشيا الاحتلال ورأت في ذلك مؤشر خطير على فقدانهم السيطرة فبدأت تتعاظم وسائل القمع والتعذيب للفدائيات اللاتي يتم أسرهن. وانطلقت الطالبات في مسيرة إلى قبرها يوم ٢٣ تشرين ثاني من مدارس العائشية و الصلاحية و الجاحظ و عمر بن عبد العزيز و ابن سينا. وتصاعد العمل الفدائي في قطاع غزة وكانت الطالبات والطلاب وقوده، وكانت المظاهرات الطلابية لا تتوقف، مثل مظاهرة الطالبات في الأول من كانون أول أمام مدرسة مصطفى حافظ في حي الرمال حيث اشتبكت الطالبات مع الميليشيا دعمًا للعمل الفدائي فأصيب طالبة برصاص الميليشيا برأسها. وبدأت الحركات الطلابية بالتصاعد مجددًا ففي أول أيام العام ١٩٦٩ قامت ٤٠٠ طالبة في نابلس بالتظاهر دعمًا للعمل الفدائي وتم قمعهن بالقوة. وفي ٢١ كانون ثاني قمعت الميليشيا بالرصاص مظاهرة للطالبات والنساء في رفح، فاستشهدت إحدى النساء وأصيبت ٨ طالبات. فانتفضت جموع الطالبات مجددًا وحرّكت باقي الأطر الطلابية والجماهيرية.

وبدأت منذ ٢٧ كانون ثاني سلسلة من المظاهرات الطلابية في شتى أنحاء فلسطين دعمًا لثلاثة فدائيات أسيرات ووصلت ذروتها في ٢ شباط حيث رفض الطالبات في غزة الدخول إلى الصفوف وحاولت ميليشيا العدو دفع مدراء المدرسة للسيطرة على الطالبات ولكنهن رفضنا الانصياع وكسرنا الأبواب وخرجت آلاف الطالبات من مدارس الزهرة والرملة ومصطفى حافظ في غزة في مظاهرة جابت الشوارع وأقامت المتاريس داعمة للعمل الفدائي، فاشتبكت مع ميليشيا العدو وأوقعت إصابتين في صفوفه بالحجار وردت الميليشيا بالقمع الذي أوقع أكثر من ١٠٠ جريحة في صفوف الطالبات. فاشتعلت المدارس في فلسطين المحتلة. وقادت الطالبات هبّة شعبية انضم إليها باقي الأطر الطلابية والجماهيرية في مواجهات عنيفة مع ميليشيا العدو وسائر الأنحاء وكثفت الميليشيا اعتقالاتها المحاكمات العسكرية، خاصة في صفوف الطالبات، في محاولة لقمع الهبّة.

استمرت الاضرابات والمواجهات بين الطالبات والطلبة من جهة وميليشيا العدو من جهة أخرى لأسابيع، تصدرت الطالبات تلك المواجهات. وكان على رأسهن طالبات دير البلح وخانيونس ونابلس والقدس – كطالبات مدرسة حسن السكاكيني – وطالبات جنين وطولكرم ورام الله والبيرة. وكانت الاعتقالات بالمئات وفرض الغرامات الباهظة وأحكام السجن لم تثني الطالبات عن الاستمرار في المواجهة. وحاولت الأطر المجتمعية التقليدية كبح الطلبة وثنيهم عن الاضرابات، ورغم أن الأطر الطلابية الرجالية كانت تبدي بعض الاستجابة، إلّا أن تعنت الطالبات وأطرهن حال دون توقف الاضرابات. فبدأت الأطر الذكورية داخل الحراك الجماهير بمحاولات الهيمنة على الحراك.

ورغم قمع التحركات الطلابية النسائية واخمادها – مع نهايات آذار وبدايات نيسان – بعد أسابيع من النضال، كان لتلك الهبة الأثر الأكبر على تكبيل أفواه من كانوا يدعون لكيان فلسطيني هزيل في ظل الاحتلال، وأثر على مشاركة المرأة الفاعلة ضمن الأطر الفدائية المسلحة والجماهيرية في سنوات السبعينات والثمانينات قبل أن يتم تهميشهم بشكل كبير مجددًا في التسعينات. وكان لافتًا أن في شباط وآذار خلال الهبة كانت الفدائيات الفلسطينيات مشاركات بشكل ملفت بالعمل الفدائي المسلح بشكل غير مسبوق، ففي القدس نفذت فدائيات فلسطينيات عملية تفجيرية في متجر استعماري في ٢١ شباط وعملية تفجيرية في الجامعة العبرية الاستعمارية في ٦ آذار. بالإضافة إلى ذلك شاركت أمينة دحبور في عملية ضد طائرة العال في مطار زيوريخ في ١٨ شباط (تواجدت الفدائيات في كل عمليات استهداف الطائرات والسيطرة عليها بعد ذلك). وفي غزة أخذت الطالبات في المشاركة في رمي القنابل على دوريات العدو وكمثال عملية عائدة عيسى سعد في ١٦ آذار.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s