كل معشر المثقفين العرب يدورون في فلك اقتباس الرجل الأبيض لمحاربة أفكار الرجل الأبيض. ودرج تقسيم هؤلاء المثقفين إلى خطين، يساري وليبرالي. فاليساري قدوته بالحياة رجل أبيض، ماركس أو لنين أو خلافه. ويتباهى بهم وينسب نفسه إليهم ويتخذ من أفكارهم ترسًا ورمحًا لمجابهة هيمنة أفكار الرجل الأبيض الليبرالية. والليبرالي يتخذ من أفكار آدم سميث وستيوارت ميل صنوانًا.
وقد يشير البعض إلى استخدام اليسار أفكار منظرين غير بيض كفرانز فانون مثلًا، وكذلك الأمر على المنحى الآخر. ولكننا نستخدم تعبير الرجل الأوروبي هنا إشارة إلى النظام المهيمن عالميًا، والهيمنة هنا تعود على الهيمنة الانتاجية، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الفكرية. وهي هيمنة استعمارية، أي أنها لا تبتغي فقط التصدّر بل أيضًا سلب المصادر والثروات.
لذلك فتصنيف التيارات الفكرية إلى يسارية وليبرالية هو تصنيف تقليدي، يعلم الجميع أنه بات مضللًا أكثر ما هو مفيد للتفكيك والفهم. فمثلًا رغم أن ماركس ولنين أنتجوا أفكارًا ثورية لسياقاتهم الزمانية والمكانية فهم اليوم يمثلون خط فكري تقليدي ولا يمكن تصنيفه بنفس تيار الأفكار الثورية التي أبحروا فيها قبل قرن وأكثر من الزمان. فنراهم اليوم يدرّسون ويقتبسون في المدارس الليبرالية.
وبذلك، ورغم الاختلاف البيّن بين المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدى المنظرين الماركسيين والليبراليين العرب، ولكنهم يحومون في نفس الفضاءات ويتقاربون في المنهجية والممارسة المهادنة للنظام المهيمن اليوم. فنرى الانتاجات الفكرية الماركسية وغيرها مما يصنف باليساري ينتج ويناقش في نفس أروقة المؤسسات المهيمنة أكاديميًا وفكريًا. وهي لا تهيمن بفضل تفوق فكري بل بفضل هيمنة استعمارية على وسائل وموارد وسياقات الانتاج الفكري.
فهي ليس لون بشرة المفكّر التي تؤخذ لتصنيف التيارات الفكرية، بل هي سياقات الانتاج الفكري. أين انتجت؟ ما خلفيتها؟ من يقتبس؟ أين طرحت؟ أين تنقش؟ من مولها؟ ما ارتباطها بالممارسة؟ والكثير من الأسئلة الأخرى. ونرى اليوم من أمثلة الهيمنة الفكرية، تيار عزمي بشار الذي يصرف الأموال الطائلة في الاستيلاء على البيانات والسيطرة على الفضاء الصحافي الاعلامي والهيمنة على الرأي العام من خلال العديد من المؤسسات التي تتبع له مثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تلفزيون العربي الجديد، مؤسسة حملة في حيفا والكثير الكثير من المؤسسات الصحفية الاعلامية والبحثية والاكاديمية التي يهيمن عليها ويمولها بشكل مباشر كلي أو جزئي أو بشكل غير مباشر.
لذلك، لنتمكن من تفكيك ومناقشة الأفكار وصوغها في إطار الأفكار الممارسة الفعلية، فأقرب تصنيف للمثقفين والتيارات الفكرية هي تصنيف: الأفكار الثورية والأفكار المهيمنة (بمختلف ولاءاتهم الماركسية أو الليبرالية أو القومية). والأفكار الثورية هي التي تُنتج في سياق مناهض للنظام المهيمن (المهيمن على الانتاج الفكري بالأساس) وتناقش في منصات غير سائدة (حتى لو نوقشت بالمنصات السائدة أيضًا) وتشكلها أنماط ممارسة بشرية ضمن المجتمعات المضطهدة، وفي هذه الجملة الأخيرة بعض النقاش والنقد، ولكن أتركها لمداخلة أخرى.