كذبة زرقا ..إلى يوم نرتقي

كيف يمكن أن تشرح للناس تلك التفاصيل عن حياتك في القدس؟ أنت لا تدري. أنت تخجل من الحديث عن أي شيء سوا عن جمالها. ذلك حديث قد يقبلوه منك. ولكن كل تلك التفاصيل التي قد تحدثهم عنها كتفاصيل معاناة وصراع يومي هي ذات التفاصيل التي يحسدونك عليها.

أو قد لا يحسدونك. منذ بضع سنين أصبحت أسمع الكثير من حديث العرب الذين يجهلون تفاصيل أن تعيش في وطن محتل. هم معك، ولكنهم يريدونك بعيدًا عنهم. هم سيصفقون لك وأنت تُقْتَل محاولًا طعن جندي، ولكن في أي يومٍ اعتيادي سيلومونك أنك تستهلك “كهرباءهم” -هم أي الصهاينة – وتدخل “مستشفياتهم” وتسير في نفس الشوارع التي تطِئُ أقدامهم دون أن تنقض عليهم طاعنًا.

هم لا يعلمون ماذا يعني أن تعيش تحت سلطة الاستعمار المباشرة. هم يرشقونك أفكارًا عن تلك البطولات التي كانوا سيقومون بها لو كانوا مكانك. على الأغلب هم يصفون لك تلك المشاهد من فيلم هوليوودي شاهدوه في السينما نهاية الأسبوع. اليوم أسمعها أيضًا من فلسطينيين في أوروبا وأمريكا، وأحيانًا أقرب. هي ليست القدس فقط. فمثلًا، الفلسطينيون في غزة ينالون قسطًا كبيرًا من ذلك التنظير عن كيف ومتى يطلقون صواريخهم. وعن الحرب، وعن الكثير.

كل تجمّع أصبح متقوقع في فقاعته ينشئ هويات جديدة متأثرة بتقسيمات المستعمر. لا أكترث، كثيرًا بتلك الهويات الليبرالية الناشئة. هوية في حيفا، هوية في رام الله، هوية في النقب، هوية في غزة، كل تلك الهويات التي لا تنصهر في بوتقة الهوية الفلسطينية الجمعية لتغنيها، لا تعنيني. تلك الهويات التي تنسج لنفسها أشكالًا تشبه الواقع الاستعماري لا تعنيني. هوية ما قبل ايريز وما بعد ايريز، ما قبل الجدار وما بعد الجدار، كل تلك الهويات التي ترسم لنفسها حدودًا استعمارية فارغة لا تعنيني. أحب هويتي المقدسية وكيف شكّلتني، ولكني أراها دومًا جزءًا من هويتي الفلسطينية. لا أراها نقيضًا لأي هوية أخرى سوا الهوية الاستعمارية. عندما أفصّلها للناس أتحدث عن تلك المدينة التي تقطنها روحي، عن تلك الجبال والحجارة وتفاصيل الحياة والناس والجكر المقدسي. لا أصفها بتلك الجدران التي رفعها المستعمر، ولا بتلك الهوية الزرقاء التي صبغ بها حياتي المستعمر. أكره اللون الأزرق.

عندما وطأت السادسة عشر، كان علينا أن نستخرج بطاقة هوية صهيونية زرقاء ليجوز لنا أن نكون في قدسنا. هي تلك الأشياء التي نُرغم عليها لنبقى إلى يوم نرتقي فيها. كنت أحسد نفسي على تلك الامتيازات التي أملكها كمقدسي، ليست الامتيازات التي يمنُّ بها علي المستعمر، ولكن امتيازات الصمود في أرضنا التي أورثنا إياها جدي الذي قاتل في صفوف الجهاد المقدس في معارك الـ٤٨. أشعر بامتنان لتلك التضحيات، البقاء والقتال دفاعًا عن بلدنا، التي منّت علي بالكثير من الامتيازات اليوم. ولكني أيضًا أعلم أن الحفاظ على تلك الامتيازات يعني أنني لا أقاتل بما يكفي اليوم. ولكن سيأتي ذلك اليوم.

لكن بطاقة الهوية الزرقاء تلك ليست إحدى امتيازاتي في الحياة. هي ترسم لي أين أستطيع أن أذهب وكيف أسافر وكم أبقى في الخارج وأين أبقى في الداخل. هي ترسم تفاصيل صغيرة في حياتي وخياراتي. من أستطيع أن أحب ومن لا يجوز أن أحب. والمضحك هو أننا نسعى إليها رغم وعورة الطريق إليها لأنها ما يبقينا حاليًا في سجال. على أي حال، لأرى أي شيء صنيعة الاستعمار امتياز!

في صيف ٢٠٠٢، كان علي أن أذهب لاستخراج بطاقة هوية. أستيقظ في الثالثة صباحًا لأصل في الرابعة أو قبل ذلك بقليل إلى المصرارة حيث كان مقر وزارة داخلية العدو القديمة. اعتقدت بأني سأكون أول الواصلين، ولكن سبقني عدد لا بأس به يقفون في دورهم بانتظار أن تفتح تلك البوابات الحديدية. هو مدخل يشبه مدخل سجن أو مقر عسكري شديد التحصين.

يشاركنا الوقوف بعض الزعران الذين يصلون قبل أن تفتح الأبواب في الثامنة. يقفزون إلى منتصف الطابور ثم يبيعون “دورهم” لشخص نال قسطًا كافيًا من النوم وصل منذ قليل. يرفعونه ويسقطونه في الأمام بين الجموع ولا يخرجوا إلّا ليعودوا مجددًا إلى نفس المكان في الأمام ليعيدوا الكرّة. بعد قليل يبيعون “دورهم” لشخص آخر. وصلت في الرابعة فجرًا، كنت أنا وأخي سعيدين أننا نبعد عن البوابة قرابة العشرة أجساد. الآن نبعد عن البوابة نحو ٢٠ جسدًا و٧ كروش.

لن ندخل قبل الظهر. لا يهم، طالما سندخل! يصل والدي، ندخله معنا في الصف. قرابة الـ١٢ أو الواحدة تمكنا من الدخول. لا أذكر على وجه التحديد سوا تلك الشمس، وتلك الروائح العرقة. وأذكر أنّ الصف كان عبارة عن أجساد كثيرة متراصة. بعضنا لم يدخل مشيًا بل محلّقًا بفعل تدافع الناس. ولكننا دخلنا، وأنا أغرق في أفكاري وغيبوبتي عندما أدخل إلى أي من مقرات المستعمر الحكومية..أو “الاستعمارية” كما يصح القول. أكرهني، أكرهني وأكرههم. وأكره كل ما حولي.

إلى اليوم، هو كما ذلك. اضطررت أن أذهب مجددًا الأسبوع الفائت إلى مقر الداخلية الجديد في وادي الجوز. هو ليس جديد هو هنالك منذ أكثر من عشر سنوات ولكننا مازلنا نسميه جديدًا. بعضنا على الأقل. هو أكبر. مقر أوسع للإذلال. هو نفس الذل ولكن يمارس في مساحة أوسع. تجلس على كرسي أفضل وأنت تكذب وتحاول التحايل كي لا يقطعوا تأمينك أو يسحبوا الهوية. هي كلها مترابطة على كل حال، إن قطعوا تأمينك، بعد بضع سنين يسحبون الهوية أو الإقامة. وتطرد من القدس.

ذهبت لتجديد وثيقة السفر التي أكره نفسي وأنا أنظر إليها. هي معاملة تبدو روتينية وبسيطة، فقط اجلب بطاقة الهوية والوثيقة القديمة وادفع وفقط. ولكنها ليست فقط كذلك. سيسألونك أسئلة تبدو روتينية، إن أخطأت الإجابة قد تجد نفسك تقاتل لتبقى في القدس. بئسًا لذلك البقاء إن لم يكن بقاءً مقاتلًا على كل حال.

أقف لا أجلس. أتأمل الوجوه النتنة التي تجلس خلف النوافذ تنتقي ضحاياها بخبث. أتأمل ذلك الرجل المجّعد الوجه المغبر اليدين وهو يحاول المراوغة، تارةً يثور وتارة يترجّى..أكرهنا! أتأمل تلك الوجوه الجالسة تنتظر دورها. الدور في ذلك المقر الاستعماري يختلف عن تلك الأدوار التي ألفت. هم لا ينادون على الأرقام ٢١٨ ٢٠١٩ ٢٢٠…بل هي ١٥٦ ٢٣١ ١٨٩ ..بذلك الترتيب. أنتظر دوري وأنا في غيبوبتي المعتادة. لا أجلس، فقط أبحر في أفكاري وغضبي وقهري وكرهي لذاتي. لا يمكنني أن أصف لكم تفاصيل تلك المشاعر التي تجتاحني بالداخل.

ينادون على رقمي، أهرول لأنهي معاملتي وأخرج. ولكن، بعد أن ظننت أن الأمور تسير على ما يرام.. “أه نسيت أسألك على الكلوشات” أنا متأكد أني مازلت أسمع وأنطق تلك الكلمة العبرية بشكل خاطئ. أنا لا علاقة لي بها. أنا أعرف أنها تعني قسائم الراتب التي تثبت أنك تدفع ضريبة للمستعمر. أنا لا أدفع ضريبة. أنا على كل حال لا أعمل كي لا أدفع لهم ضريبة. قضية العمل والضريبة هي تفاصيل تستغرق ساعات من الحديث سأتفادها الآن.

“ايش كلوشات..بعرفش..باشتغلش أنا..أنا بدرس دكتوراة بالمراسلة”. معلش كذبة زرقا! المهم تمرق. بعد الأخذ والرد أعتقد بأني تفاديت الخطر. كان من المحتمل أن توقف المعاملة، ومن ثم توقف لي تأميني، ومن ثم أدخل في معركة البقاء. لو دخلت، سأدخلها بطريقتي. لا يهم. أعتقد أني تفاديت الأسوأ.

ولكنني أكرهني، فأنا أبديت بعض الانبساط بأن الموظفة عربية. كنت أصفها لوالدتي صباحًا بالعميلة. الآن أنا سعيد بأنها عربية ليست يهودية. ما هذا التناقض. هو كما تناقضنا في الأراضي المحتلة سنة ١٩٦٧ حيث نقوم بمعاملات الهوية أمام موظف عربي في دائرة حكومية للسلطة، ولكن في نهاية الأمر هو يذهب بمعاملتك نحو المستعمر الصهيوني ليبت بها. ذلك الموظف الفلسطيني المبتسم أمامك في مقرات السلطة هو فقط وجه قذر ولادة أوسلو التي تكره. ربما في غزة تتنقل معاملتك من يد موظف سلطة حماس إلى موظف سلطة فتح ثم إلى المستعمر. مشوار أطول شويتين. بس نفس الطريق. كيف نفضّل القيام بمعاملة الهوية الخضراء الاستعمارية من خلال وكيل فلسطيني للاحتلال على أن نقوم بمعاملة الهوية الزرقاء الاستعمارية مباشرة من خلال الاحتلال. كل تلك التناقضات تغرقنا .

أنهي المعاملة وأهرول مسرعًا إلى الخارج وأذهب لأنفّث عن القليل من قهري في أرض السمار وأنا أشاهد قدسي هادئة عن بعد. ولكنني أبقي الكثير منه..سأحتاجه. وأعود إلى المنزل كما كل من خرج من ذلك القبو، لا نتحدث عن تفاصيل ما يحدث في الداخل. فقط نحمل قهرنا معنا إلى يوم نرتقي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s