“رح يغلبوك بالمطار،” يقولون محذرين. “معلش، أنا بدي يضلهم يذكروني بعلاقتي فيهم. علاقة المستعمر. رح أقرف من نفسي لو ما غلبوني!” تدخل ردهة المطار، اجراء اعتيادي، سؤال من أين أتيت إلى أين تذهب! لماذا لا يختصرون تلك المسرحيات؟ لماذا يصرون عليها؟ أنا أعلم أنني سأحصل على الرقم الطويل الذي يبدأ بـ ٦. وما الداعي لذلك الرقم العشاري. ربما يريدون أن يمنحوك الشعور بروتينية وبيرقراطية الاذلال لتقبله كما كل تلك البيرقراطيات في الحياة.
أنا لن أقبل بأي رقم سوا الرقم ٦! سأشعر بالإهانة إن لم أحصل على أعلى مراتب التفتيش. هل يأمنون جانبي إلى هذه الدرجة؟! لا وألف لا. بعد دقائق من “الاستعباط” أتطمن بأني حصلت على رقم الكمال، ستة. أكمل مسيري في الردهات وأنا أعرف طريقي. أسأل نفسي دومًا لماذا ذلك “الموظف” على طوابير التفتيش؟ يقوم بدوره في تلك المسرحية برداءة. أنا لا أحتاجه ليمسك تلك الوثيقة ويقول لي إلى أين أتجه. نظرة واحدة إلى الطابور، أعرف أن علي الاتجاه يمينًا حيث لا يقف أحد، ربما فلسطيني أو اثنين.
كنت أرفض دومًا استخراج وثيقة أسافر من خلالها عبر مطار اللد. كان السفر عبر الجسر أضمن. كل المسافرين فلسطينيين. لا معاملة خاصة! ولكن السفر عبر الجسر كان يستدعي أحيانًا يومين للوصول إلى الوجهة الرئيسية وعند العودة كذلك. وتكاليف السفر عبر الجسر لن أطيقها. ولكنني لم أكن أسافر كثيرًا، لذا لا يهم.
ولكنني عندما قررت أن أدرس الماجستر في أوروبا اضطررت للمساومة واستخراج الوثيقة لأن الخيار الوحيد كان أن لا أعود لفلسطين إلّا مرة أو مرتين في السنة لأنني لا يمكن أن أطيق تكاليف السفر عبر الجسر. لذا لا يهم أن أخوض ذلك الاذلال عبر المطار مقابل أن أتمكن من العودة لفلسطين بشكل مستمر. كل شهر أو شهرين ربما.
اليوم ذلك الإذلال مغلف بابتسامة، يريدون تدجينك، ولكنك ترفض الابتسامة، تستدعي تلك “الكشرة” التي يعرفك بها أصدقاؤك. تدربت عليها كثيرًا حتى اتقنتها. أنت تتجهز للذهاب لغرفة مجاورة. هي اليوم مساحة مفصولة لا سقف لها لايهامك بأنك مازلت مع الجموع وهو فقط أمرٌ روتيني!!
أن تعرف كل الإجابات مسبقًا ولكنك لا تجيب. دعه يسأل. لا داعي لأن تتبرع بالإجابة. حكمة تذكرتها من ذلك الشخص الذي قابلته يومًا قبل ١٠ سنوات أو أكثر. تدخل “الغرفة” أنت تعرف ما عليك فعله، خلع نعليك والانتظار. لا تخلع ملابسك كما يطلبون منك في تلك المطارات التي يدير بعض ردهاتها ضباط الشاباك. هنا لديهم ذلك الجهاز الذي يعريك تمامًا. الشاشة ليست قربك، ولكنها في غرفة بعيدة كي لا ترى ما يرونه. يظنوك لا تعلم. تدخل في ذلك الجهاز وينتظر ذلك الصهيوني العفن قرب الهاتف، يأتي الاتصال، يبربرون بكلامٍ لا أفهمه. “ماذا على رقبتك؟” لا شيء، أتحسس رقبتي وأتذكر بأني ألبس خارطة فلسطين الذهبية. “أها هاي!” أُمْسكها جيدًا بين يداي حتى لا يجد موطئًا لأصابعه القذرة.
يستمر الروتين وذلك التفتيش الدقيق وأنا أجلس كبرياءً لا أعرف من أين يأتيني. لماذا لا أجلس مطأطئًا. قد أكون أشعر بفخرٍ لأنهم لا يأمنون جانبي. رغم عجزي وقلة فعلي، فإن هذه التجربة لا تمنحني شعورًا بالذل، ولكن شعورًا بفخر قد لا أستحقه. “بتقدر اتضب الشنطة خلصنا!” آخذ وقتي في ترتيب حقيبتي، أمسك أغراضي وأنا أفكر بروتين التعقيم حين أصل إلى وجهتي.
أخرج من الغرفة، أسير، لا أستطيع ممارسة هوايتي في هذا المطار. في المطارات التي أزور أحب أن أسير بين رفوف العطور، أجرب وأشم، وفي النهاية لا أشتري إلًا ذلك العطر الذي لا أستطيع أن أحصل عليه إلا في المطارات. أحب أن أمشي بين رفوف الشوكلاته أستمتع بمنظرها ولا أشتري إلّا قطعةً صغيرة. ولكن هنا، لا أستطيع أن أمارس هوايتي. أمشي إلى بوابة الصعود وأنتظر بهدوء. حجزت كرسيّ في الطائرة بحرص. كرسي بجانب النافذة هو أفضل خيار لتتفادى التعامل مع أي من ركاب الطائرة. تتأكد من عدم شرب الماء أو القهوة كي لا تحتاج استخدام المرحاض في الطائرة.
وهل تجلس يمينًا أم شمالًا؟ هل ترغب في رؤية المثلث والجليل أم ترغب في رؤية القدس والساحل الجنوبي وربما غزة إذا حالفك الحظ؟
حجزت تذكرتي مع أولوية لأكون أول الصاعدين ولا أقف في الصف معهم. أصل مسرعًا إلى الكرسي وأجلس وألف وجهي نحو النافذة وأغمض عيناي كي لا يحدثني أحد. أفضل النوم في الطائرة لكي لا أسمع أصواتهم. نصل إلى وجهتنا وأتجهز لكي أنزل. أنتظر أن تسلك الطريق قبل أن أقف كي لا يلمسني أحدهم. أهرول خارجًا، أسرع إلى خط الجوازات قبل أن يصلوا، وأخيرًا وصلت. لا شنط أنتظرها، لا أجلب معي حقائب كبيرة لأنهم سيفتحونها بالتأكيد. أهرول مسرعًا إلى الخارج وأصل سكني، وأجلس على جهازي لأحجز تذكرة العودة ربما بعد شهر أو شهرين. ثم أبدأ بانتظار موعد الرحلة القادمة. حجزتها بحرصٍ واخترت نافذتي، تلك التي تطل على غزة وميناء يافا.