لما أكن يومًا أهوى جمعات التجوال في جبال فلسطين. كنت أراها نشاطًا اجتماعيًا ليبراليًا لا يتناسب مع علاقتي بهذه الأرض. كانت تلك المبادرات تنطلق واعدة، مجموعة صغيرة من الفلسطينيين تريد توطيد علاقتها بالوطن من خلال التجوال في بريتها واكتشاف قصصها. ولكنها تتحول جميعًا نسخًا ليبرالية من نشاطات نهاية الاسبوع لتلك الطبقة البرجوازية ومن والاها، يجلبون طعامهم ليتمتعوا بنهاية الأسبوع بـ “طشّىة حلوة” مع أصدقائهم.
يلهون ويمرحون ويضحكون ويسخرون وينهون يومهم في أحد البارات أو المقاهي، أو مسترحين في منازلهم يتجهّزون لأسبوع عمل جديد. ربما يستمعون إلى قصة أو قصتين يقصها أحدهم عليهم. وهي ليست قصصًا خفية، هي نفس القصص الثلاثة أو الأربعة المشهورة التي نعرفها جميعًا. ولكن أتفاجأ دومًا من اندهاش المعظم، أي وكأنهم يكتشفون معرفة جديدة عن تاريخنا، وفي ذلك حديث طويل. ولكن تلك القصص تبقى في سياق الجماليات البطولية دون أي مقاربة تفكّرية.
وأنا لست ضد الاستمتاع والضحك والمرح بالمطلق. خلافًا! أنا أكثر الناس مرحًا، رغم إشاعة الكشرة التي تلبسني! ولكنني كنت أتخيل تلك الأنوية تتحول إلى فرق كشّافة تتبلور إلى أكثر من ذلك نحو تحرير فلسطيننا. ولكنها تبقى “طشّة آخر أسبوع” لا أكثر. مقاربة ليبرالية لنسج علاقة مع الوطن.
أنا أعشق شباط فلسطين. يتملكني فيها عشقٌ فلسطيني وأصبح طفلًا يغزل أحلامه على منوال سمائها، تغدو قطعة فوضاوية النسج لمن لا يفهمها. ولكني طفلٌ أراها أجمل ما يمكن أن يُنْسَجْ. وأنا أتجول في تلك الجبال الخضراء الوعرة، أتشمم الزعتر والميرامية أراني أكبر وتكبر أحلامي وتنضج وتصبح أكثر تناسقًا وأنا أجلس على تلك الصخرة المبللة دون مبالة. أسرح في تلك الجبال والأودية والكهوف. وأراني أفكر كيف أصيغ علاقتي بها علاقة ثائر وليست علاقة متجول.
أتخيل من كان يزرع تلك التلال، من كان يعيش هنالك قبل ٧٠ عامًا ونيّف. أتخيل تلك الحياة كاملة. أنا أعلم أن صوري هي مركّبة من صور شاهدتها في “التغريبة الفلسطينية” ومسلسلات وأفلام وكتب أخرى. ولكنني أحاول جاهدًا أن أضيف على تلك المخيلة لمساتي. ثم أهرول لمخيلة ترنو من يوم التحرير. كيف ستعود إليها أروحها!
أحب نفسي كثيرًا وأنا في حضن جبالها، وأكرهني قليلًا لأني مازلت أفكر وأتحدث ولا أفعل. ولكنني أواسي نفسي، “ستفعل”. على كل حال أنت عندما تعمل لن تمتلك المزيد من الوقت لكل ذلك، لذا لا يهم. أتسلق تلك التلال وأحلم. فأنا في الجنة. تلك الجنة التي سأقتلع شوكها يومًا.
فلسطين هي أكثر من وطن. هي أكثر من حلم. هي ..هي..لا أعلم كيف أعبر عن تلك المشاعر. لم نتلعم بالمدارس تلك المعاني. لم نقرأها في الكتب. رأيتها في عيون كثيرة، هي معاني لا تُنْطَق كلمات. ولكني أصرُّ في كل مرة أن أقول لمن يرافقني “إنت مش فاهم! إنت مش فاهمة! فلسطيني هي كل شي بدي إياه!”
حاولت أن أرغب بما هو أكثر، ولكني اكتشفت أني كنت أسعى لما هو أقل وأنا في غفلة. فلسطين هي كل شي بدي إياه. وبيوم، رح نروح أنا وهي رحلة أبدية لحالنا، سأزرع في قلبها جسدي لتنبت أرواحًا تشبهني!

















