فقط أحبها، وأهيم في تفاصيلها. تراني أحيانًا أقترب منها، أسير في حواريها وأرتقي عقباتها. وأحيانًا أخرى ابتعد مسافة سهلٍ. أتأمّلُ ذلك المدى الرحب الذي لا يتسع غيره لأحلامي.

كنت طفلًا لم يتجاوز الرابعة عندما أُوْقِف والدي لأنّ دوريةً لجيش الاحتلال لمحته ينقل الحجارة. كان متجهًا نحو المشفى في عجلةٍ فلديه عمليةٌ مستعجلة لشاب أصيب برأسه في المواجهات. كانت الحجارة التي وضعها الشبان في اليوم الفائت مازالت تغلق الطريق على دوريات الاحتلال. ماذا يفعل؟ هل يستدير ويأخذ طريقًا التفافية؟ لا وقت! نزل ليزيل بعض الحجارة جانبًا. فقط القليل ليفتح مسارًا لسيارته. صادفته دورية جيش، ظنوه ينقل الحجارة لاغلاق الطريق. أوقفوه قليلًا ولكن سرعان ما أطلقوه.
هذا كل ما علمته عن تلك القصة. لا أدري إن كنت أذكر تفاصيلها مذ كنت في الرابعة، أم أنّني أذكرها لأنها تذكر أمامي باستمرار منذ أن كنت في الرابعة. هي تلك الذاكرة الجمعية التي تُحْفَظ بقصصنا وسهراتنا وصبحياتنا. هي تلك الذاكرة التي نملكها ولا ندري كيف امتلكناها، ولكننا كبرنا معها.
وهي ليست محض قصة في الماضي. هي تعودنا ونعودها. نعالجها مجددًا بعد كل تجربة. عندما كبرت قليلًا، أدركت أن تلك القصة كانت مقتضبة. اجتزأ منها والدي بعض تفاصيلها لكي يحفظ ماء الوجه. أنا اليوم أعرف بأنه لا يمكن أن تكون تلك القصة بهذه البساطة. هنالك فاصل وتفاصيل من الإذلال لم يذكرها. يريد أن يحافظ على ماء الوجه أمام أطفاله، وأنا اليوم لن أستطيع أن أسأله. تلك التفاصيل قد تكون حذفت من ذاكرته على أية حال.
ولكن لا داعي لذكرها، فأنا لم أتوقف عن خوض تلك التفاصيل التي لم يذكرها. كلنا نعلمها ولكن نختار أن نتجاهل الحديث فيها إمّا إنكارًا أم كبرًا. بعضنا يحس بالهزيمة، يمضي أيامه لا يقشع كل ذلك الإذلال. هو هنالك بيّن، ولكن عيناهم تختار أن لا تراه. إنتقائيون نحن في قهرنا.
ولكن منّا، وأنا منهم، نمشي عنها كبرًا، أو هكذا نظن. ما هو أسوأ؟ ذلك الموت السريع أم الأسر المديد أم التعذيب أم القصف أم التشريد أم أم أم؟ أين تستطيع أن تضع ما تخوضه من إذلال لا يشعر به سواك أمام كل ذلك القهر الفردي والجمعي؟ أمام تلك الآلام والتضحيات. ذلك أقل ما يمكن أن تتوقعه من علاقة طبيعية بينك وبين المستعمر. عليك معايشته إلى حين يأتي ذلك اليوم. وأيضًا، لا يهم. أنت لا تكرههم لأنهم يعاملونك بسوء. تلك المعاملة تحصيل حاصل. أن تكرههم لمئة سنة مضت. لو عاملوك كملك، ستبقى تكرههم. أن تكرههم لأنهم سرقوا منك فلسطينك. لذا لا يهم كيف يعاملونك.
كنا صغارًا لا نمتلك كل المفردات للتعبير عن مشاعرنا. ولكن عند سؤالنا عن فلسطين، نسترسل بالتعبير كأننا ضليعي لغة. ابن العاشرة يستعير كلمات قرأها بكتب المعلقات السبعة التي تصفحها قبل سفره. لا أحد يفهم لماذا كل تلك الحماسة؟! إلى أين تراه ذاهب؟
إلى مستقر الروح ولكنهم لا يعلمون.
نصل المحطة الأولى نحو فلسطين. نقوم بما يجب أن نقوم به من معاملات وزيارات ونجدول رحلتنا نحو فلسطين. نحن أربعة أطفال ولكن كل منا يحفظ دوره في تلك المهمة. منا من يصعد إلى الحافلة ليحجز المقاعد ومنا من يلاحق الحقائب ويجاهد بها نحو صندوق الباص. وأمي تجد لنفسها زاوية لتسرق شفطة سيجارة بعيدًا عن أعين أبي. ووالدي هو قائد الاوركيسترا، يهاوش عند الحاجة للهوشة ويرشي عند الحاجة للروشة. عفوًا “يكرم” عند الحاجة “للاكرامية”.
كيف تتعامل مع إذلال العرب لك؟ هم الذين من المفترض أنهم..؟؟ هممم؟؟. عفوًا نسيت كل تلك الشعارات الرنانة. مضى دهرٌ عليها. اليوم هي أوضح، هم يتحالفون مع الصهاينة بكل وضوح، لا قمم عربية ولا شعارات رنانة بعد الآن. تلك التي كنا نسمعها أيام الانتفاضة، ونبحث عنها في كل سفرةٍ لنا ولا نجدها، ولكننا لم نيأس يوم في البحث نختلق لهم الاعذار. اليوم استرحنا. لا شيء نبحث عنه.
على كل حال، تلك ذكريات الطفولة عن العودة للبلاد. نصحى فجرًا، الرابعة أو الخامسة فجرًا لا أذكر، ولكنني أذكر الظلمة التي كنت ألمحها أمام عيناي المغمضتين. الليلة الفائتة كنا قد قمنا بكل التجهيزات وراجعنا خطة العبور سويًا. عبور الجسر نحو فلسطين. نراجع الخطة مجددًا ونحن نتناول بعض اللقيمات. تأتي السيارة، نودع من نودع وننطلق نحو فلسطين. كنت دومًا أتخيل نفسي أنطلق في إحدى تلك المهمات التي كنت أقرأ عنها. مهمات العبور نحو الأرض المحتلة في الستينات. نحن محظوظين. والداي ميسوري الحالي نسبيًا، نستطيع أن نستأجر سيارة لتأخذنا إلى الجسر. أحيانًا يتسابق أقاربنا لايصالنا بسياراتهم. نصل الجسر لنبدأ رحلة الوقوف في الطابور. الجسر لن يفتح قبل ساعة من الآن ربما. ولكننا هنا نحجز دورنا.
والدي يجر ٤ أطفالٍ خلفه، هو لا يملك المزاحمة بالدور ولا يمتلك إلّا التذمر بصوتٍ عالٍ بعض الشيء -ولكن حذر- على أولئك الذين يزاحمون الجميع للدخول أمامًا. ولكننا في نهاية المطاف سنصل. ليس إلى فلسطين بعد، ولكن لشباك التذاكر لنحجز تذكرة الحافلة وندخل. ليس إلى الحافلة بل إلى قاعة الذبّان. هكذا كنا نعرفها. هي قاعة يقطنها الذبان بكثافة ويستضيفنا في عقر داره ونحن ننتظر دورنا على شباك الجوازات. نتأمل تلك الوجوه المتشجارة، ننصت لتعليمات والدي، “قف هنا” “ادخل” “اصعد”. نحن لا نكترث لشيء، هنالك والدي يشاجر ونحن مطمئنون أنه يعلم ماذا يفعل. نحن مطمئنون أنه سيوصلنا إلى فلسطين.
ننهي ختم الجوازات ونشعر بنشوة أول انتصار، لم يعيدونا إلى عمّان لاكمال معاملةٍ منقوصة. لقد قمنا بكل المعاملات الحكومية بدقة متناهية. لم يجدوا ثغرة. يسلمنا الضابط تلك الجوازات متأملًا ايجاد ثغرة بمعاملة من يلينا في الدور. نسرع نحو الحافلة. كلٌ يقوم بدوره على أكمل وجه. نخاف من جحرة أبينا أو صراخه إذا أخطأنا أو نسينا. يلاحقنا الذباب إلى الحافلة. هو أيضًا يريد العبور إلى فلسطين. ولكنه ربما لا يملك الوثائق التي تجيز له العبور. ولكنه يحاول على كل حال.
الآن المهمة واضحة ومحددة، العبور إلى فلسطين دون سحب “الهوية الزرقاء”. أو وثيقة الاقامة التي يمنحنا إياها الاحتلال، دونها لا يمكننا العبور إلى فلسطين. لن يمكننا العبور نحو أي مكان في المطلق، لأننا لو خسرناها، سيعاقبنا الأردنيون بسحب المواطنة منا لأننا لم نطع الصهاينة على أكمل وجه! أو هم يقولون “حفاظًا على وجودنا في بيت المقدس وتصديًا لمخططات الوطن البديل!”
لا نعلم سوا وطن واحد..فلسطين. لا يهم. نحن في الحافلة نعدّ الحافلات أمامنا. “٢٠ باص..فاضية اليوم. حظنا حلو..ساعتين وبنفوت”. ننتظر على ذلك الجسر المعلّق فوق نهر الأردن الجاف تقريبًا. نراجع روايتنا. ماذا نقول وماذا لا نقول. أصوات صراخ الأطفال وتأفأف كبار السن من حر تموز في الغور. “التكييف يا أخ!” “فش تكييف، افتحوا الشبابيك!”
بعد وقت لا أدري طويل أم قصير نعبر الجسر، نحن في فلسطين. “وصلنا جسر اليهود” يقول أحدهم. مازلت طفلًا، أقول كاتمًا في عقلي “وصلنا فلسطين!” عندما كبرت قليل لم أكتمها، بل صرت أقولها بصوت مرتفع مصححًا. لا أذكر الكثير مما كان يحدث بين العبور والوصول إلى شباك الضابط الصهيوني. كنت بقمة التركيز على عدم نسيان التعليمات التي أوكلني بها والدي. وعلى كل حال، الجهاد بالحقائب ومزاحمة الدور كانت مهمات روتينية أقوم بها بنومي. أحفظها عن ظهر قلب.
“لازم تجددوا هوياتكم، آخر فرصة” ذلك كان الانذار الذي اعتدت عليه. أنظر إلى ابتسامة أبي لأنه ربح مجددًا في لعبة النرد مع الحظ. وجدنا حقائبنا لننطلق، نأخذ سيارة كبيرة لأننا ستة. “ع بيت صفافا..ع الجبل” وننطلق. نفتح شبابيكنا نغمض أعيننا ونتلمس هواء فلسطين على وجوهنا. تكبرنا السعادة. كل ما نراه جميل، كل ما نشمه جميل، كل ما نلمسه جميل. وعندما نصل إلى أرض السمار، ننظر إلى يسارنا ونلمح تلك القبة الذهبية، وحينها نقول “وصلنا!” تعود إلى قلوبنا الروح.
مشهد مدينة القدس من أرض السمار يمثل لي منذ صغري معاني الوصول. هنالك كنت استودع روحي عند السفر ومنها استعيده عند العودة. كل ذلك الإذلال لا يهم. لأننا في النهاية وصلنا. نحن هنا، في فلسطين. وصلنا القدس. هم لا يعلمون لماذا أحبها!
أنا لا أدري، ولكنني أحبها فقط. كما هي..بكل تفاصيلها.