في فترة دراستي لماجستير الصحافة السياسية، كنت أنهي مساقًا في التواصل السياسي في ربيع ٢٠١٢. خاض أستاذنا في الكثير من ما خلف النوايا وكيف تؤثر وسيلة التواصل على كيفية التواصل. كنت في حينه كثير التواصل، استخدم شتى أشكال التواصل، من مدونات للمدونات الصغيرة لكتابات صحفية والمحادثات المتزامنة ومحادثات الفيديو مع أصدقائي الذين تفصلنا عن بعضنا الحواجز والمسافات. هي وسائل كثيرة لا تعد ولا تحصى. كل لها شكلها ومكمنها.
ولكن من أن بدأت بتدريس مساق دراسات الاعلام في خريف ذات العام وأنا يشغلني سؤالٌ آخر وهو، لماذا نفضّل وسائل تواصل عن غيرها؟ شخصيًا، كنت لفترة طويلة أفضل المدونات الصغيرة والمحادثات (الدردشات) المتزامنة. لخمس سنوات تالية، كنت أحث طلبتي عند تقديم مشروعهم الفصلية (ايصال فكرة من خلال وسيط معين) على التفكير بشكل التواصل الذي يحبذونه ولماذا؟
كما أسلفت، فإن وسائل التواصل التي يمكن استخدامها جمّة، سواء للتواصل السياسي أو حتى على المستوى الشخصي الاجتماعي. ولكن وسيلتنا المحبّذة يمكنها أن تخبرنا الكثير عن شخصياتنا وممارساتنا، ولربما تساعدنا على إدراك بعض عيوبًا وتداركها. فمثلًا، أدركت بأنّ نرجسيتي تطغى أحيانًا لذلك أفضل المحادثات المتزامنة والمدونات. لأن التواصل فيها يندرج ضمن أنماط التحدث وسماع النفس، وفيه قلة من سماع الآخر. وكان لزامًا علي أن أشكل وسائل تواصلي لأقوي من ملكة الاستماع للآخر أكثر.
على كثرتها، تندرج أنماط التواصل ضمن مزيج من أربعة خواص: ١) تزامنيتها، ٢) طولها، ٣) شكلها، ٤) وضع التفاعل (الكترونيًا أو شخصيًا أو وسيط). سأحاول في هذه المقالة ادراج أساليب التواصل المختلفة ضمن الأنماط الأكثر رواجًا في النقاش السياسي، وتحليل ما يعني ذلك عن شخصية وأسباب الأشخاص الذين يختارون أنماط التواصل تلك.
التواصل عبر الكتابة المتزامنة الالكترونية
من أكثر أنماط التواصل الاجتماعي اليوم هو التواصل عبر الكتابة المتزامنة الالكترونية، أو كما يعرف بالدردشات، من خلال تطبيقات كسغنال وواتساب وتيليغرام. واسلوب التواصل ذلك يمكن أن يستخدم على منصات أخرى لم تبنى للتواصل المتزامن ولكن صفاتها تمنح تلك القدرة، كالتويتر والفيسبوك (طورت لاحقًا تطبيق للدردشات المتزامنة) والانستغرام.
نمط التواصل ذلك هو من أسوأ أنماط التواصل في النقاش السياسي (وحتى المواضيع الشخصية التي تطلب نقاشًا جديًا مطولًا). في هذا النمط، تنكسر تبادلية الأفكار بشكل عام. وإن بدأ الحوار بتناسق وتبادل أفكار، ولكن حين وجود اختلاف بيّن بوجهات النظر، سرعان ما تتحول الدردشة إلى سباق لكتابة وارسال الحجج والافكار والسيطرة على مسار النقاش. وبعد برهة ينقسم النقاش السياسي (أو الشخصي) إلى خطين متباينين من النقاش، لا يلتقيان.
وفي النقاشات الجدية، يفضل بعض الأشخاص تلك الوسيلة عندما تطغى نرجسيتهم. لأنهم يكترثون كثيرًا لسماع الآخر وهم متمسكون بوجهة نظرهم وما يهمهم من النقاش هو اقناع الآخر بوجهة نظر معينة وليس الحوار. ويمنحهم البعد الالكتروني قابلية لتجهال ما كتبه الآخر. طبعًا ذلك ينطبق حين وجود الخيارات. ولكن في يومنا هذا خيار التواصل المتزامن الصوتي أو عبر الفيديو أصبح بمتناول الجميع تقريبًا. ولكن كيف يختلف ذلك عن التزامنية الكتابية؟
التواصل الالكتروني عبر الفيديو أو الصوت المتزامن
عند التواصل عبر الفيديو أو الصوت، تضيف خصوصية وحميمية للتواصل لا تتواجد في الدردشة الكتابية. فعند سماع النبرة أو رؤية الشخص، فأنت تخلق نوع من التعاطف مع المتحدث (أو معرفة أكثر بالغير). وهنالك مستويان من التواصل الصوتي أو المرئية المتزامن، إمًا عبر ارسال رسائل متقطعة متزامنة، وفي هذه الحالة هنالك بطء في التزامن. أم عبر التواصل المباشر كالمكالمة الهاتفية أو عبر الفيديو (كتطبيق الزووم وغيرها). ومعظم تطبيقات الدردشات تمنح ميزة للمكالمة المباشرة سواءً الصوتية أو المرئية.
هذا النمط هو أنسب للحوارات الجدية التي يكتنفها اختلاف في وجهات النظر. وهذا إذا افترضنا أنها اقرب فرص التواصل بين الأشخاص ولا خيارات أخر. لأن هذا النمط من التواصل يزيد من إمكانية الاستماع للآخر. قد لا يحبذه كثيرًا النرجسيون ويفضلون أن يأخذوا نقاشاتهم الجدية إلى الكتابة عوضًا عن المحادثة الصوتية أو المرئية.
ولكن في وجود خيار الحديث الشخصي (وجه لوجه) المتزامن، فإن تحبيذ هذا الخيار عبر المحادثة الالكترونية فيه هروب. ويحبذه الأشخاص الذي يمتلكون شخصية مهزوزة ويتمتعون بقلة ثقة. ذلك بأن الحديث عبر الصوت أو الصورة، ورغم المستويات المختلفة التي توفره من معرفة الآخر، ولكنها تخفي خلفها الكثير. فعبر الحديث الصوتي الهاتفي، أنت تخفي معالم وجهك وتفاعلك، والذي قد يعطي الكثير من الدلالات عن كيفية استقبالك للأفكار الأخرى واهتمامك بها ونظرتك للآخر والخ من الأمور. وفي الحديث المرئي عبر الفيديو، تكشف الكثير مما تخفيه المحادثة الصوتية، ولكن الشاشات هي ذي بعدين فقط. ويستخدم مصطلح ثلاثي الابعاد بشكل مغلوط كثيرًا. ولكن الحقيقة هي أن أي صورة على الشاشة هي ممثلة ببعدين فقط، الطول والعرض. وهذا جدال تقني طويل لن نخوض فيه هنا.
وليس ذلك فقط، ولكن اي حديث الكتروني يخفي الكثير من ايحاءات الجسد المتزامنة لسببين رئيسيين. حتى لو كان الحديث عبر الفيديو، الشاشة لها مساحة تصوير محددة. والسبب الثاني هو التأخير لأجزاء من الثانية أو حتى لثواني في بعض الأحيان. وهذا التأخير التقني يؤثر على كيفية التعامل مع ايحاءات الجسد ودورها في المحادثة. عدا عن ذلك فإن بعض الاحاءات يمكنك أن تلمسها من الأشخاص المتواجدين بشكل شخصي أمامك لا يمكن أن تلاحظ على الشاشات بسهولة. فعلى سبيل المثال عند التوتر يزيد تعرّق المتحدث. أو مثلًا بعض الرجفة في يده أو جسده التي تعبر عن مشاعر مختلفة.
التواصل عبر الحديث الشخصي (وجه لوجه) المتزامن
لذلك يبقى التواصل عبر الحديث الشخصي المتزامن هي أفضل الأنماط عند النقاش السياسي أو الشخصي الجاد خاصة عند وجود اختلاف وجهات نظر. طبعًا إلّا إذا كان هنالك خطر من قتل شخصٍ لآخر. ولكن يمكنكم تأمين المنطقة.
هذا النمط من التواصل يكتنفه قدر كبير من الجهد في سماع الآخر وتحليل ايحاءاته والتعبير بشكل واضح وسريع. لا تمتلك وقت كثير للتفكير بردك، فإن كان موقفك ضعيفًا ستراك تهيم من جهة إلى أخرى بردود غير متجانسة. وبعض الناس من الذين لا يمتلكون ملكة الاستماع للآخر أو لا يملكون ذلك القدر من التعاطف مع الآخر يشعرون بضيق وتوتر في ذلك النمط من التواصل، فيهربون منه ويقطعونه فور تمكنهم من ذلك.
ويفضل ذلك النمط من الاتصال الاشخاص الذين يمتلكون قدرًا كبيرًا من الثقة إمّا بوجهة نظرهم وتعمقهم فيها أو بقدرتهم على الاقناع أو الحديث المنمق. ويفضله أيضًا الاشخاص الذين يمتلكون قدرًا كبيرًا من المعرفة أو القدرة على تفسير وتحليل لغة الجسد، وفي هذه الحالة هم يمتلكون أفضلية في النقاش عن الطرف الآخر لأنهم يمتلكون وسائل أكثر تساعدهم في الانتصار بالمحادثة.
ولكن الرغبة في الانتصار بالنقاش، سواء السياسي أو الشخصي هو ليس خصلة حسنة دومًا. لأن في الحوار عند اختلاف وجهات النظر من الأجمل أن تدخلها بافتراض أن وجهة نظرك قد لا تكون بالضرورة صائبة أو دقيقة، ومع ذلك تحاول دعمها وكأنها الحقيقة المطلقة. وهنا في المحصلة قد تصل إلى نقطة على خط تباين الوجهات تشعر أنها الأكثر دقة وتتبنها كوجهة نظر. ولكن قد يعيق الحديث الشخصي المتزامن امتلاك الطرفين قدر كبير من الحديث الكامن. وهنا يلعب الوقت دوره في منحك الاحساس بأنك لن ولم تتمكن من قول كل ما تريد قوله. فإن لم تمتلك ذلك الوقت، فقد تميل إلى التواصل غير المتزامن.
التواصل غير المتزامن
والتواصل غير المتزامن يأخذ أشكال كثيرة، أكثرها رواجًا هي عبر البريد الالكتروني. وهنا تستطيع الاسترسال بالحديث عندما يكتنف عقلك الكثير من التعبير. ولكن أيضًا، عندما لا تمتلك الثقة الكافية بالحديث المباشر، إمّا عدم ثقة بمخزون حججك ومعلوماتك رغم تمسكك بوجهة نظر معينة، أو عدم ثقة بمهاراتك بالحديث وتحليل الآخر. أو خوفًا من مهارات الآخر في ذلك الإطار. وهنا تشعر بأن هذه الوسيلة قد تمنحك شعور أفضل بأنك قمت بقول ما تريد قوله. وفي بعض الأحيان قد يفضل النرجسيون هذه الوسيلة دومًا لأنها تمنحهم السيطرة على ماذا يسمعون وكيف يديرون الحوار.
ولكن التواصل غير المتزامن يأخذ أشكال أخرى في الاتصال السياسي. فيمكنك أن تعطي محاضرة لجمهور معين أو لطلابك. أو لربما تخطب بالجماهير في الميدان. أو قد تكون أنت محاور لقاء تلفزيوني. وفي أكثر الوسائل رواجًا اليوم، فإنك تنشر أفكارك وتعبر عن نفسك وتتواصل مع الناس عبر منشورات في المدونات الصغيرة (كالتويتر) أو عبر مدونات (كالوردبرس وغيرها). ويمكنك استخدام أشكال مختلفة للاقناع أو التعبير المنشود، كالكلمات والصوتيات والمرئيات. وقد يعتبر ذلك أسلوب تواصل غير متزامن عبر وسيط. ولكن هذا المصطلح الأخير قد نعني فيه شيء آخر
التواصل غير المتزامن عبر وسيط (غير الكتروني)
وهنا نعني بهذا النمط من التواصل أي عبر شخص ثالث أو عبر رسالة ورقية مكتوبة، الوسيط المادي الغير الكتروني. ويكتنف هذا النوع من التواصل قدر كبير من الثقة في الغير والحميمية (والرومانسية في بعض الأحيان). وفي حالة كان التواصل عبر رسالة مكتوبة، فإن تلك الكلمات أنت تلتزم بها طالما تلك الرسالة موجودة. هي أفكار لا يمكنك التهرب منها. فهناك قدر من الثقة الكبير في ما تقول، وأيضًا قدر من الثقة الكبير في الشخص الذي ترسل له تلك الرسالة. لأنك في حال قررت التراجع عن تلك الأفكار، فإنك على ثقة بأنك لن تخاف من وجود تلك الكلمات على ورق.
وكذلك الامر بالنسبة للتواصل عبر وسيط يتمثل بشخص ثالث. ولكن في هذه الحالة، هنالك أيضًا مستويات أكثر من الثقة بالأشخاص (أو ثقة بأشخاص أكثر). وأيضًا قد يكتنف تلك الوسيلة في بعض الأحيان رغبة في التهرب لاحقًا من تلك الأفكار بادعاء أنها ليست من بنات أفكارك. هذا النمط من التواصل يفضله السياسيون جدًا، ولكن لا تجدها منتشرة بين الافراد خاصة في التواصل الشخصي.
حاولت هنا أن أختصر قدر الامكان فلا يمكن حصر السياقات جميعها. وخيارات التواصل المتاحة بالنسبة للناس مختلفة، فتحبيذ وسيلة عن أخرى يكون أحيانًا لقلة الخيارات. لذلك فإن هذه التدوينة هي لتعطي قدرًا وافي من الاتجاهات للتفكّر بأنماط التواصل وماذا تعني لك وعنك وعن الآخر. وماذا تعني عن علاقتك بالآخر، سواء في التواصل السياسي أم التواصل الشخصي. فكما قالت النسوية كارول هنيش “الشخصي هو سياسي”.