قبل كل ذلك نسأل أنفسنا..هل يجوز الرثاء؟ ..هل يجوز البكاء؟…أم نكابر ونستمر في نشر الزغاريد؟
فكرة المكابرة لها نقاشٌ آخر..ولكني أجد نفسي في صراع داخلي. متى أرثي؟ وهل أرثي؟ أم في الرثاء خيانة وضعف؟
نشعر بحاجة مستمرة للبكاء.
ندخل دون وعي في نوبةٍ من الرثاء عند ارتقاء كل شهيد، وعند فشل كل محاولة، وعند عجزنا.
وعند عجزنا..
هل نحن نرثي عجزنا أم نرثي النهايات؟ أم نحن نرثي أنفسنا؟
حينما يرتقي شهيد نعرفه نقلّب ما بين الصفحات أملًا في تكذيب للخبر..
أعود في ذاكرتي إلى حين ارتقى صديقي شهيدًا بين يداي. رغم يقيني باستشهاده..انسقت وراء الأمل عندما خطفوا جثمانه وادّعوا علاجه..اليوم أدرك أن تلك كانت أول مراحل الرثاء..استفقت على تأكيد الاستشهاد وتسمّرت في سريري لمدة لا أدري إلى اليوم كم امتدت..ولكنني أدري أنها لحظة ادراك النهاية..لحظة ادراك العجز..تلك كانت الخطوة الأولى..
من ثم توجهت إلى حيث التظاهرة…ولكن لماذا؟ لماذا نسعى لمشاركة مرثياتنا؟ لماذا يتجه رفاق الشهيد إلى اغلاق المحال..إلى اجبار الجميع بالمشاركة بالرثاء؟ يتجاوز الأمر كونه أمر صواب أم خطأ. هو ضرورة، فالرثاء الجماعي هو ضرورة نضالية. من حقنا جميعًا أن نرثي النهايات وحدنا، ولكن في السياق النضالي، نحن بحاجة الاحساس بأننا لسنا وحدنا. نحن بحاجة الاحساس بالأمل..نحن بحاجة الاحساس أنّ ما ضحينا به لن يذهب سدى..نحمل ذلك الألم سويًّا لنتمكن من الاستمرار قدمًا…
الرثاء يستنزف طاقاتنا..لذا لا نستطيع البقاء في رثاء مستمر. لا يمكن أن ندخل في نوبات رثاء جماعي عند ارتقاء كل شهيد أو عند فشل كل محاولة. ولا يمكننا أيضًا أن نكابر ونستمر في التقدم دون رثاء..
كي تثمر نضالاتنا يجب علينا التوقف والرثاء عند النهايات..عندما ندرك أننا فشلنا في تلك المرحلة. الرثاء الجماعي في ١٩٤٨ و١٩٦٧ و١٩٩٣ و٢٠٠٥ كانت ضرورة..تلك لحظات فارقة.
١٩٤٨ خسارة معظم فلسطين وفشل الرهان على الأمراء والملوك العرب..
١٩٦٧ خسارة كل فلسطين وفشل الرهان على أنظمة القومية العربية المنقذة ..
١٩٩٣..خسارة منظومتنا النضالية وتضحيات الانتفاضة وفشل الرهان على المنظمة
٢٠٠٥ ..تطول قائمة الخسائر ..وفشل الرهان على كل شيء وأي شيء
أضف إلى ذلك عند انتهاء جولة حرب جديدة في غزة، ٢٠٠٩..٢٠١٢..٢٠١٤.
هل قمنا بالرثاء الجماعي الكافي في تلك المحطات، هل أدركنا ماذا خسرنا وبماذا فشلنا؟ هل فعلًا كان رثاءً جماعيًا أم فرديًّا؟ هل نهضنا من رثائنا لنسير في طريق التحرير من جديد؟
ذلك نقاش طويل..ولكن الأكيد هو أن الرثاء الجماعي أداة نضالية مهمة للسير قدمًا، وإلّا تسمّرنا في أماكننا، نكرر أخطاءنا، ولا نسير إلّا إلى الوراء. وكما الرثاء الفردي مهم للصحة النفسية والذهنية لكل فرد منّا، كذلك الرثاء الجماعي هو في غاية الأهمية للصحة النفسية والذهنية الجماعية..
كيف نحدد متى يجب أن نتوقف للرثاء؟ هو نقاش مهم..
ولكن من المؤكد أننا اليوم ..في ظل تحالف الرجعيين العرب مع الاحتلال بشكل بائن دون تواني…في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوءًا..في ظل انتشار الجريمة…في ظل تفاقم الجرائم ضد النساء دون رادع..وفي ظل فشلنا وفشل كل مكونات النضال الفلسطيني في تصور أي حالة من حالات التحرر…اليوم ..علينا التوقف للرثاء
علينا أن نتوقف للرثاء الجماعي…وكلٌ على حدا فرديًا لما لا؟ فنحن لم نفشل جماعيًا فقط..بل فشلنا فرديًا..ونحن اليوم نغرق في إنكارنا
علينا أن ندرك فشلنا…أن ندرك أخطاءنا وأن ندرك عجزنا…علينا أن نبكي جماعيًا …وأن نسأل أنفسنا…أين السبيل؟ كيف نسير قدمًا..جماعيًا…كيف نتحرر من عجزنا وكيف نخلق حالة تحرر جديدة تأخذنا نحو ذلك الأمل..